أبان العجز عن خمس فرضنه
وصم رمضان مختارا مطيعا
إذ الأقدام من قيظ رمضنه
على أن الشيخ لا يلبث بعد هذا النهي والأمر أن يعود إلى بؤسه ويأسه، وأن يشركنا معه في البؤس واليأس؛ لأنه يؤديهما إلى قلوبنا في لفظ هين وادع رقيق رفيق ، جزل مع ذلك متين، فهو ينبئنا بأن الفناء مصير كل شيء، إليه يصير الناس، وإليه تصير النجوم. وإليه يصير حتى هذا الذكر الذي يعلل به الناس أنفسهم إذا عرض لهم ما يؤذيهم في الحياة، وما يثبط همهم ويفل عزائمهم، ويصرفهم إن استجابوا له عما هم مقدمون عليه من جلائل الأعمال، أنهم يعزون أنفسهم حينئذ بأن التاريخ سيعرف لهم من البلاء ما ينكره عليهم المعاصرون. ولعلهم يضللون أنفسهم حين يؤمنون بوفاء التاريخ، وبما سيذكرون به من خير إن أقدموا، وبما سيذكرون به من خير إن أحجموا، فإذا هم يقدمون أو يحجمون زاهدين في رضى الناس، معرضين عن سخطهم، راغبين مع ذلك في رضى التاريخ، مشفقين من سخطه؛ كأنهم سيذوقون لذة ذلك الرضى، ويحسون لذع هذا السخط بعد أن يشتملهم الفناء. فأبو العلاء يرد من غرورهم هذا، ويكف عن غلوائهم، وينبئهم بأن هذه الأحاديث نفسها صائرة إلى الفناء، وإن ظنوا بها البقاء. ليس هناك شيء يستطيع أن يخلد، لن يخلد الناس ولن تخلد الكواكب، ولن تخلد أحاديث التاريخ. فالسرور بالسير والأحاديث غرور، والإيمان بأحكام الأيام لغو، والتعزي بإنصاف التاريخ باطل، والأمر كله صائر إلى الفناء. فمن أقدم على خير فليقدم عليه لأنه الخير، لا لأنه سيعقب مكافأة من الناس، أو إنصافا من التاريخ، ومن أحجم عن شر فليحجم عنه لأنه الشر، لا لأنه سيعقب سخطا من الناس، ولوما من التاريخ.
وليس من هذا الفناء مخرج، وليس عن هذا الفناء منصرف، فإن استطعت أن تتخذ سلما في السماء، أو نفقا في الأرض فافعل؛ فإن ذلك لن يغني عنك شيئا، ولن يصرفك عن هذا الفناء الذي أنت صائر إليه. وإن استطعت أن تتخذ لنفسك جناحين تطير بهما في الجو، وتبعد بهما في الطيران فافعل، فلن يغني ذلك عنك شيئا، فسيهاض جناحاك، رضيت ذلك أم كرهته، وستقع مهما تصعد في السماء، وسترد إلى ذلك الفناء الذي خرجت منه، ولست تدري كيف خرجت، والذي تعود إليه، ولست تدري ماذا ينتظرك فيه.
أهذا اليأس القاتم شر؟ أهذا البؤس الحالك مثبط للهمم؟ مفتر للعزائم؟ أما بالقياس إلى ضعاف النفوس الذين لا يعملون إلا ليلقوا جزاء ما عملوا، ولا يعرضون إلا ليتقوا شر ما أعرضوا عنه فنعم. وأما بالقياس إلى أقوياء النفوس الذين يعملون ويعرضون لا راغبين ولا راهبين، بل لأن طبائعهم تدفعهم إلى العمل، أو تدفعهم عنه فلا.
ومن هنا أنتجت هذه الفلسفة الحالكة المشرقة، المثبطة المنشطة في حياة الناس نتيجتين مختلفتين أشد الاختلاف، دعا إليها أبيقور قبل أبي العلاء بقرون طوال، فاستجاب لها فريقان من الناس، كلاهما فهمها على وجهها، ولكن كليهما ذهب بهذا الفهم في طريق مضادة لطريق صاحبه.
فأما أول هذين الفريقين، فقد استيأس من جزاء الخير والشر، فارتفع بنفسه عن انتظار الجزاء، ونزهها عن البيع والشراء، وطهرها من اللذة وآثامها وآثارها، وراضها على الألم حتى ألغى شعورها بالألم، وصرفها عن النعيم حتى ألغى تقديرها للنعيم.
وقد سلك أبيقور نفسه هذه الطريق، ولكن كثيرا من معاصريه، والذين قرأوا فلسفته سلكوا تلك الطريق. وسلك أبو العلاء طريق أبيقور، ولكن كثيرا من الذين قرأوا فلسفة أبي العلاء سلكوا تلك الطريق، فأي الفريقين أخطأ، وأي الفريقين أصاب؟ كلاهما مخطئ في أكبر الظن لسبب يسير، وهو أن هذه الفلسفة تقوم على الإسراف في الإيمان بالعقل، والاطمئنان المطلق إلى أحكامه وأقضيته وقياس الأشياء بمقاييسه القاصرة الضيقة. فمن يدري لعل للأشياء مقاييس أخرى أبعد وأوسع من هذه المقاييس التي نقيس بها الخير والشر، ونقدر بها الثواب والعقاب.
ومن يدري لعل من الإسراف في الغرور والكبرياء أن نتخذ أنفسنا وعقولنا مقاييس للأشياء، وألا نلحظ حين نقدم أو نحجم إلا ما يعود علينا من نفع أو ضر، ومن خير أو شر، ومن مثوبة أو عقوبة. أليس من الممكن - بل أليس من الحق - أن نخفف من هذه الأثرة، وأن نلحظ ما قد يكون لإقدامنا أو إحجامنا من أثر في الجماعة التي نعيش فيها، وفي النوع الذي نتأثر به ونؤثر فيه؟ أليس من الممكن بل من الحق علينا أن نتساءل: ألا يجوز أن تكون لأعمالنا آثار تتجاوزنا وتتجاوز الجماعة وتتجاوز النوع نفسه إلى كائنات أخرى نعرفها أو لا نعرفها، ونحن نجهل - على كل حال - آثار أعمالنا فيها وفي مصيرها؟
صفحة غير معروفة