لفارقت شيبي موجع القلب باكيا!
وصور أبو العلاء نفسه هذه الخصلة تصويرا رائعا في شعره الذي بكى فيه الشام حين كان في العراق، والذي ندم فيه على العراق حين عاد إلى الشام.
كان إذن قلقا في بغداد، ولكني مع ذلك أعتقد أنه لم يكن يميل إلى فراقها، ولو استقامت له الحياة فيها لما فارقها، وأكبر الظن أنه كان يحدث نفسه بإمكان الاستقرار في بغداد إلى آخر أيامه، ولعله داعب هذا الأمل الحلو في أن تلين له الحياة في العراق، فيدعو أمه التي فارقها لتلحق به، وتنفق معه ما بقي من أيامها. وأكبر الظن أن أبا العلاء لم يكن يؤثر بغداد؛ لأنها مدينة العلم والفلسفة فحسب، بل لأن حياتها السياسية كانت أخف عليه، وأهون احتمالا من حياة الشام. فالذين يقرأون اللزوميات وسقط الزند نفسه يشعرون بأن أبا العلاء كان يكره الحياة السياسية في الشام كرها شديدا؛ ذلك أن الشام كانت موضوع نزاع متصل بين الفاطميين والمتغلبين من الأعراب من قيس وطيء والروم. ولم يكن أبو العلاء يحب الفاطميين ولا يرضى عنهم، بل لم يكن أبو العلاء يحب الشيعة عامة، ولا من يتصل بهم من قريب أو بعيد، فهو يعرض بالفاطميين، ويهاجم الإسماعيلية والإمامية، ويهاجم القرامطة مهاجمة عنيفة. ولم يكن حبه للمتغلبين من أعراب قيس وطيء بأكثر من حبه للفاطميين. كان يكره من أولئك الأعراب ظلمهم وجهلهم، وغلظتهم وقسوة قلوبهم، وكان ينكر من الفاطميين مذاهبهم في السياسة، وآراءهم في الدين، وواضح أنه إذا كره أولئك وهؤلاء فلم يكن يحب الروم، ولا يؤثرهم بالمودة، ولا يرضى لنفسه الخضوع لسلطانهم بين حين وحين كما كانت تجري بذلك الأحداث في ذلك الوقت.
وكانت بغداد بمأمن من هذا كله، وبمعزل من هذه الفتن المنكرة الخطيرة، فيها تشغيب للجند، وفيها الاضطراب بين الشيعة وأهل السنة من وقت إلى وقت، ولكن هذا كله لم يكن يغير من حياة العلماء والأدباء شيئا، ولم يكن يصرفهم عما كانوا فيه من الفراغ لما يحبون من درس وبحث، ومن مناظرة وجدل، ومن رواية وإنشاد. فكان كل شيء في بغداد يحببها إلى أبي العلاء، ويغريه بالإقامة فيها حتى يدركه الموت، ولكن الحياة لم تستقم له في بغداد؛ لأن أخلاقه لم تكن أخلاق الرجل الاجتماعي الذي يستطيع أن يأخذ من الناس وأن يعطيهم، وأن يقارضهم المنافع بما فيها من خير وشر، وأن يصبر على أذاهم حينا، ويلقاهم بالأذى حين تمكنه الفرصة.
لم يكن أبو العلاء من هذا كله في شيء، وإنما كان دقيق الحس، رقيق الشعور، سريع التأثر، سريع رد الفعل كما يقال. وقصته مع الشريف المرتضى ومع أبي الحسن الربعي تدلان على ذلك دلالة واضحة. فإذا أضفت إلى هذا أن صاحبنا قد ظفر بالشهرة في بغداد، ولكنه ظفر معها بالحسد، ولم يظفر معها بالمال تبينت أنه لم يكن له ببغداد مقام، ولا أمل في المقام. وإذن فقد اضطر إلى أن يفكر في العودة إلى المعرة ليقيم فيها وادعا مطمئنا. وقد رأيت أنه كان يكره كل شيء في المعرة إلا أهلها الوادعين الآمنين، كان يكره إصفارها من العلم والعلماء ودور الكتب، وكان يكره تعرضها لهذه الأحداث السياسية التي تجعلها كالكرة يتقاذفها الفاطميون والأعراب والروم، وكان يعلم أنه إن عاد إلى المعرة دون أن يحتاط لنفسه، ويعتصم بالعزلة التامة، والحيدة المطلقة لم يأمن من أن تعبث به أحداث السياسة كما عبثت بغيره من العلماء والأدباء.
ومن هنا نفهم أنه فكر فأطال التفكير، وروى فأطال التروية، واستشار الخاصة من أصدقائه في بغداد بعد أن بين لهم جلية أمره، فأقروا رأيه، وشجعوه على المضي فيه. وإنه لفي ذلك وإذا الأنباء تأتيه بأن أمه مريضة، فتصور حزنه وإشفاقه، وخيبة أمله، وكذب رجائه! لقد كان يمني نفسه أن يقيم ببغداد، وأن يحمل أمه إلى بغداد، فلما أعجزته الإقامة أخذ يفكر في السفر، ولكنه يتثاقل عنه، ويرجئه ليستزيد من الحياة في بغداد. وإذا مرض أمه يزعجه عنها فجأة، ويدعوه إلى فراقها في أسرع وقت ممكن.
وما يكاد يرتحل عن بغداد، ويمضي في طريقه مسرعا إلى المعرة يسابق الموت إلى أمه حتى يأتيه النبأ بأن الموت قد سبقه إليها.
فهو إذن لم ينكب بالإخفاق فيما كان يرجوه من الحياة الآمنة الخصبة في بغداد فحسب، وإنما نكب فيما كان يرجوه من لقاء أمه تلك التي أحبها حبا لم يحببه أحدا قط، تلك التي مانعت في سفره إلى بغداد إيثارا لنفسها به، وإيثارا له بالعافية، وإشفاقا عليه من المشقة والجهد. فلما ألح عليها في ذلك، وتبينت حرصه عليه، واتصال نفسه به عرفت كيف تضحي بنفسها ابتغاء مرضاته، وكيف تخلي بينه وبين ما أراد.
وقد أظهرت في غير هذا الكتاب جزع أبي العلاء لهذه النكبة، وما صورت هذه النكبة من ذلك الحزن الذي أخرجه عن طوره أو كاد، ولكن المهم أن هذه النكبة وطنت نفسه، وقوت عزمه على ما كان قد صمم عليه من العزلة والانفراد، والاستسلام لغريزته الوحشية.
وقد رويت في غير هذا الكتاب تلك الرسالة المؤثرة التي كتبها إلى أهل المعرة، ينبئهم فيها بعزمه على العزلة، ويطلب إليهم فيها ألا يخفوا للقائه إذا بلغ القرية، ولا لزيارته إذا استقر في داره. ولست أرى بأسا برواية هذه الرسالة مرة أخرى؛ لأني أجد في قراءتها - وأرجو أن تجد في قراءتها - لذة حزينة، تثيرها هذه النغمة الحزينة التي يصطنعها أبو العلاء في تصوير ما يريد:
صفحة غير معروفة