إن عقله يفكر في النجوم والكواكب، ويتصور من أمرها الخطأ والصواب، والممكن والمحال، ولكنه يريد أن يعرف من أمر هذه النجوم والكواكب أكثر مما عرف، وأن يبلو حقائقها بلاء الملم بها، المداخل لها، القريب منها. فما له لا يبلغ القمر، وما له لا يلم بالمريخ، وما له لا يبلو بنفسه أخبار المشتري؟ وما هذا التناقض بين قوة العقل وتضاؤل القدرة؟ بل في الأمر ما هو أعظم من هذا إيلاما، وأشد منه إيذاء، فقد تتواضع النفس وهي مضطرة إلى هذا التواضع، فلا تطمع في أن تبلغ النجوم، ولا تطمح إلى أن تزور الكواكب، ولكنها تطمع في أن تحقق ما ترى أنه الخير، وتجتنب ما ترى أنه الشر. ما ترى أنه الخير أو الشر في حياتها القريبة جدا، في حياتها اليومية التي تحياها من لحظة إلى لحظة، وتباشرها من آن إلى آن. وما لها لا تبلغ من ذلك شيئا، وما لها لا تقدر من ذلك على شيء؟ وما بال هذه القوى التي لا تحصى قد تظاهرت وتناصرت على منعها من تحقيق ما تريد، بل من محاولة ما تريد؟
ما هذه الحرية المطلقة التي يستمتع العقل بها إذا فكر، وما هذا العجز المطلق الذي يضطر العقل إليه إذا أراد أن يعمل أو يدفع إلى العمل؟ ما هذه القوى الطبيعية التي تقوم دونه، فتمنعه من أن ينزه الجسم عما تقتضيه غرائزه من هذه الأشياء الكريهة البغيضة التي لا يقدم عليها إلا كارها لها، متبرما بها، مزدريا نفسه؛ لأنه مضطر إلى الإقدام عليها؟ ما هذه القوى الاجتماعية التي تقوم دونه فتحد من حريته في العمل، وتحد من حريته في القول، وتضطره إلى العجز المطلق عن الصلاح والإصلاح؟ جهل بما كان قبل دخول السجن، وجهل بما هو كائن بعد الخروج من السجن، وعجز عن إصلاح أمره وتدبيره كما يحب أثناء الإقامة في السجن. وشر من هذا كله أنه قد يحب هذا السجن، وقد يحرص على الإقامة فيه، وقد يستمتع أثناء هذه الإقامة ببعض اللذات المادية أو المعنوية، فلم لا يخلى بينه وبين هذا السجن يقيم فيه ما شاء، ويخرج منه متى أراد؟ أو على أقل تقدير لم لا ينبأ بموعد مضروب، وأجل محدد لهذا الخروج، ولكنه يدخل على غير علم ولا إرادة، ويخرج على غير علم ولا إرادة، فهو في خوف متصل، وقلق دائم، لا يدري متى يفتح السادن عليه بابه، ويقذفه من هذا السجن الذي ألفه إلى هذا الفضاء المجهول الذي لا يعلم من أمره شيئا.
بل هناك ما هو شر من هذا وأشد إيلاما، فلماذا منح السجين هذه القوة المفكرة المقدرة المريدة التي تأمل وتعجز عن تحقيق الأمل، وتريد وتقصر عن إنفاذ الإرادة، وترى الخير ولكنها لا تجد إليه سبيلا، وترى الشر ولكنها لا تجد منه مخرجا؟
فلو أنك اتخذت اللذة والألم مقياسا للسعادة، وسلكت في ذلك طريقا مشبهة لطريق الفلاسفة، ولكنها معاكسة لها معاكسة ظاهرة صريحة لانتهيت إلى نتيجة تملأ النفس يأسا وسخطا. هؤلاء الفلاسفة يفاوتون بين الكائنات بمقدار حظها من الحس والشعور، ومن اللذة والألم، ومن التفكير والتقدير. وهم يجعلون الإنسان أرقى هذه الكائنات؛ لأنه يشاركها في الوجود، ثم يشارك بعضها في أنه جسم، ثم يشارك بعضها في أنه حي، أي حساس شاعر، ثم ينفرد منها جميعا؛ لأنه مفكر ناطق. وخذ طريقا معاكسة لهذه الطريق، فسترى الإنسان أشقى هذه الكائنات؛ لأنه مفكر، ولأن تفكيره يضطره إلى ألوان من الآلام، وضروب من اليأس والقنوط لا يجدها كائن غيره، فهو يضطره إلى الشك، ويلبس الأمر عليه فيورطه في الحيرة وآلامها، وهو قد يبين له الخير، ولكنه يبين له في الوقت نفسه عجزه عن بلوغه، وهو قد يبين له الشر ولكنه يبين له في الوقت نفسه إغراقه فيه، وعجزه عن الخلاص منه، وهو قد يبين له السعادة، ولكنه يبين له في الوقت نفسه قصوره عن أن يبلغها كاملة، وقصوره عن أن يحتفظ بأيسر ما يبلغه منها، وهو قد يبين له الشقاء، ولكنه يبين له في الوقت نفسه اضطراره إليه، ولزومه له، وإخفاقه المحتوم كلما حاول أن يخلص من أقله وأيسره، وهو قد يبين له اللذة المادية، ولكنه يبين له في الوقت نفسه أنه عاجز عن أن يبلغ خيرها وأكملها، كما يبين له أن ما يحصله من أيسرها وأهونها لا يكاد ينقضي حتى يعقبه من الآلام والحسرات ما يعدل أضعاف ما أصاب من نعيم ومتعة، وهو قد يبين له الألم، ولكنه يبين له في الوقت نفسه أن أنواع هذا الألم لا تعد، وأن ضروبها لا تحصى، وأنه لا يخلص من بعضها إلا لتهجم به غرائزه الخاصة أو الأقدار التي لا يملك تصريفها، ولا دفعها على ما هو شر منها، وأمض وأسوأ عاقبة وأبلغ أثرا. فإذا تركت الإنسان إلى ما يرى الفلاسفة أنه دونه من الكائنات فسترى هذه الكائنات أحسن حظا من الإنسان؛ لأنها قد سلبت هذا العقل، وحرمت هذا التفكير، فالحيوان يألم ويشقى، وهو يلذ ويسعد، ولكنه لا يقدر الألم والشقاء، واللذة والسعادة كما يقدرها الإنسان. والحيوان تتفاوت أنواعه فيما بينها بمقدار ما أتيح لها من الحس والشعور، وبمقدار ما أتيح لها من قوة الغرائز وضعفها، فكلما قوي حظ الحيوان من الحس والشعور والغرائز قوي حسه للألم وشعوره به، وإشفاقه منه، وقوي حرصه على اللذة، وتتبعه لها، وتوقعه إياها، وألمه للعجز عن بلوغها، والقصور عن تحصيلها. فإذا تجاوزت الحيوان إلى النبات فقد بلغت جنسا من الكائنات له حظ من حياة، ولكنه ضئيل بالقياس إلى حظ الحيوان. وإذن فحظه من الألم لا يكاد يذكر، ولعله ألا يكون موجودا. فإذا تركت النبات إلى ما هو أدنى منه رتبة، وأحط منه طبقة عند الفلاسفة، إلى الجماد الذي لا حظ له من حياة، ولا حظ له من حس، ولا حظ له من إرادة، ولا حظ له من تفكير، فهناك السعادة العظمى التي لا ينغصها شقاء، وهناك الراحة الكبرى التي لا يشوبها ألم. وإذن فلم منح هذا السجين حياته هذه القوية العنيفة التي تستتبع الحس والحركة، والإرادة والتفكير، وتستتبع بحكم ذلك الألم والبؤس، والشقاء والحرمان الذي هو أصل الشقاء كله؟
ومن هنا يتمنى أبو العلاء حين لا ينفع التمني، ويود حين لا ينفع الود، ويبكي حين لا يجدي البكاء، ويكون تمنيه ووده وبكاؤه مصدر شقاء وحسرات تضاف إلى ما هو فيه من شقاء وحسرات. فهو يغبط الحيوان؛ لأنه لا يعرف الخير والشر، ولا يفكر فيما كان وما يكون، ولا يرجو ولا يخاف، وهو مع ذلك يرثي له من الألم الذي يجده، والشقاء الذي يشعر به، والمكروه الذي يتعرض له، ولكنه يغبط الجماد إلى أبعد حد ممكن، ويرسل أصواتا تمتلئ بالحسرة واللوعة؛ لأنه لم يظل جمادا كما كان، فهو قد كان جمادا في سالف الدهر.
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
وهو صائر إلى الجماد في مستقبل الدهر.
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
صفحة غير معروفة