وكون النفس في الجسم الخبيث
فأنت ترى أن أبا العلاء لم يكتف بالسجن الذي فرضته الطبيعة عليه فرضا حين أفقدته ناظره كما يقول، وإنما فرض على نفسه سجنين آخرين، أحدهما: ظاهر محس، يراه الناس جميعا، ويشهدون ما يمكن أن يلقى سجينه من الحزن اللاذع، والألم الممض، وهو هذا البيت الذي أقام فيه أبو العلاء لا يريمه، وفرض على نفسه لزومه مهما تكن الظروف، وطلب إلى أهل المعرة ألا يخرجوه منه حتى حين يغير الروم على المدينة.
والثاني: سجن فلسفي، تخيله كما يتخيل الشعراء، واشتقه من حقائق الأشياء كما يفعل الفلاسفة، وما أكثر ما يلتقي الشعراء والفلاسفة في موقف واحد يتفق فيه العقل والخيال جميعا!
هذا السجن الخيالي الفلسفي هو الجسم الذي أكرهت النفس - كما كان يتصور أبو العلاء، وكما تصور الفلاسفة من قبله ومن بعده - على أن تستقر فيه لا تتجاوزه، ولا تتعدى حدوده إلا حين يقضي عليها الموت، وهي حينئذ تظفر بحرية لا تعرف كيف تقدرها، ولا كيف تستمتع بلذاتها أثناء هذه الحياة؛ لأن هذه الحرية مجهولة المدى، مجهولة الموضوع، يثير انتظارها في النفس ألوانا من الشك، وضروبا من الخوف، وفنونا من الهلع أحيانا. فما مصير النفس بعد أن تفتح لها أبواب هذا السجن، وتحط عنها قيوده وأغلاله، ويخلى بينها وبين الانطلاق؟
لقد استراح المؤمنون الذين اطمأنوا إلى البعث، بعث الأرواح وحدها، أو بعثها مع الأجسام، اطمأنوا إلى أن حياتهم بعد الموت متصلة بحياتهم قبل الموت، ومتأثرة بها، ومؤدية لثمنها، ومحتملة لتبعاتها، اطمأنوا إلى أنهم مسئولون بعد الموت عما قدموا بين أيديهم قبله، فهم يعلمون نحوا من العلم إلى أين هم ذاهبون، وإلى أي حال هم صائرون. ويثير هذا العلم في نفوسهم كثيرا من الأمل، وكثيرا من اليأس، كثيرا من الأمن، وكثيرا من الخوف، ولكنهم على كل حال مطمئنون إلى شيء أساسي، وهو أن خروج أنفسهم من هذا السجن لن يدفعها إلى المجهول المطلق الذي لا تعرف له أملا، ولا حدا، ولا موضوعا.
فأما الرجل الذي لم يطمئن إلى هذا الإيمان، ولم يمتلئ به قلبه، ولم تسكن إليه نفسه، ولم يسترح إليه عقله، وإنما هو مضطرب في أمره أشد الاضطراب، يؤمن مرة فيرجو أو يخاف، وينكر مرة فيدركه اليأس والجزع، ويضطرب بين الإيمان والإنكار في كثير من الأحيان، فإذا هو قلق لا يستقر على حال، وهذا الرجل معذب دائما أشد العذاب، إلا أن يفطر على التهاون والإعراض، والاشتغال بعاجل الأمر عن آجله، والانصراف إلى يومه عن غده، وإلى التفكير في حياته الدنيا، والاستمتاع بها، والاحتياط لها، عن التفكير في حياته الآخرة، والإشفاق منها.
ولم يكن أبو العلاء من هذا التهاون في شيء، وإنما رفض حياته الدنيا رفضا، وصد عنها صدودا، ومنعها أن تحول بينه وبين التفكير، وأن تحول بينه وبين ما يستتبعه التفكير من النتائج. وأشق من ذلك أن هذا الرجل الذي كان قوي الخيال بعيد آماده، كان في الوقت نفسه قوي العقل عميقه، قوي الإرادة عنيفها، فلم يستطع الخيال قط أن يسيطر عليه أو يستأثر به، وإنما وجد من العقل دائما ما يحده ويرده إلى التواضع والاعتدال. وما أكثر ما تأثر أبو العلاء بما كان يقرأ من الديانات، فمالت نفسه إلى الإيمان بالبعث! وما أكثر ما تأثر أبو العلاء بما كان يقرأ من كتب بعض الفلاسفة، فمال إلى التصديق بخلود النفس! ولكن ما كان أكثر ما يعرض العقل لهذا الميل فيمحوه محوا، أو يضعفه إضعافا شديدا! وأكبر الظن أنه حين كان يطمئن إلى خلود النفس لم يكن يطمئن إلى ما يزعمه الفلاسفة من تفصيل ما ستلقاه النفس الخالدة من سعادة أو شقاء، كما أنه حين كان يطمئن إلى البعث، لم يكن يطمئن إلى ما سيلقاه الناس بعد البعث من نعيم أو جحيم، فكان اطمئنانه إلى خلود النفس لا يزيده إلا شقاء؛ لأنه يشرف به على هوة لا يعرف لها قرارا، ولا علم له بما يضطرب فيها من خير وشر.
ولم يكن أبو العلاء يحرص على شيء كما كان يحرص على أن ينشر ميت من الموتى، فينبئه وينبئ الناس بما وراء الموت. ومن قبله طلب هذا إلى الأنبياء فلم يظفر طالبوه بشيء، ولم يظفر أبو العلاء بما لم يظفر به غيره، فظل في حيرة كما كان الذين جحدوا البعث من قبله في حيرة أيضا. نستغفر الله! بل إن أكثر الذين جحدوا البعث من قبله، لم يكن لهم عقله وذكاؤه، ونفوذ بصيرته، فلم يفكروا في عاقبة، ولم يشفقوا من مغبة، وإنما قالوا هي حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. وما كان شيء أحب إلى أبي العلاء من أن يقول كما قالوا، ولكنه لم يستطع أن يقوله؛ لأن عقله كان يمنعه من ذلك؛ ولأنه لم يكن قادرا على أن يتصور أن الناس خلقوا عبثا، أو تركوا سدى. فلم يكن له بد إذن من أن يسأل نفسه، ومن أن يسأل الناس، ومن أن يسأل حيوان الأرض وجمادها، وكواكب السماء ونجومها، عما عسى أن يلقى الناس بعد أن تطلق نفوسهم من هذه السجون.
والذي كان يغيظ أبا العلاء إلى أقصى حدود الغيظ أنه كان يفكر ويستقصي، فيرى أن نفسه سجينة في جسمه بأدق معاني هذه الكلمة وأقساها، قد أدخلت السجن مكرهة، وأخرجت منه مكرهة، لم تسأل أتريد هذا الدخول أم ترفضه، ولم تستشر أترغب في هذا الخروج أم تزهد فيه. بل هي لا تذكر أنها جنت قبل دخول هذا السجن من الإثم ما يضطرها إلى دخوله، ولقاء العذاب فيه إن كان شرا. ولا تذكر أنها أتت من الصالحات بما يثيبها بدخوله، والاستمتاع باللذات فيه إن كان خيرا. لا تعلم شيئا عن ماضيها. فلم أدخلت هذا الجسم وأقرت فيه؟ ألتلقى فيه عقابا أو ثوابا؟ وفيم العقاب والثواب، وهي لا تعرف أنها جنت شرا أو أتت خيرا؟ ثم هي مخرجة منه على كره منها، ولا تعرف ما سيلقاها بعد هذا الخروج.
كل هذه الخواطر كانت تنغص على أبي العلاء حياته إذا خلا إلى نفسه، وفكر في أمره. على أن هناك منغصات أخرى لم تكن أقل من هذه الخواطر إيذاء لهذا الشاعر الحائر، وهذا الفيلسوف البائس، وهي منغصات الحياة نفسها، هي هذه الآلام التي يلقاها في السجن، والتي يحسها ويشهدها، ويستطيع أن يصورها تصوير عالم بها، خاضع لها، هي هذا التناقض الهائل بين أمل النفس وطاقتها، بين ما تريد وما تستطيع. يفكر أبو العلاء فلا يرى لتفكيره حدا ولا غاية، فإذا أراد العمل وجد نفسه مقيدا مغلولا، ووجد قدرته على العمل ضئيلة لا قيمة لها.
صفحة غير معروفة