الأدوار الجليدية وتأثيرها في الإنسان
1
لم يرد على الإنسان سؤال أصعب من سؤاله: ما هو الإنسان؟ فإن هذا السؤال سئل منذ نشأت الفلسفة، واشتغل به جميع الفلاسفة، ومع ذلك بقي زمانا طويلا ولم يتحول عما تركه عليه مؤسسا المدرستين القديمتين طالس وفيثاغورس. وما ذلك إلا لقيام الإنسان حكما في مسألة لا يسلم فيها من الغرض مع انقياده في أحكامه إلى التصورات الشعرية والأفكار الوهمية والمبادئ الخرافية؛ ولذلك لم يتيسر البحث عن الإنسان بحثا علميا حتى زعزعت العلوم الطبيعية هذه المبادئ الفلسفية في الأعصر المتأخرة، فانحصر البحث في هذه المسألة في علمي الأنثروبولوجية؛ أي: علم الإنسان. والسوسيولوجية. أي: علم الاجتماع الإنساني.
وعلى ذلك فعوضا عن أن يصعد الإنسان بالخيال إلى الطبقات السماوية؛ ليبحث عن أصل الإنسان، فإنه ينظر إليه في المكان الذي ينشأ فيه وينمو ويموت، ولا ينتقل إلى غيره من الأبحاث الطبيعية إلا عند الضرورة لارتباط العلوم الطبيعية بعضها ببعض ارتباطا شديدا، بحيث يتعذر البحث في علم منها بدون الاستناد إلى سابقه في سلم العلوم. فالسوسيولوجية لما كانت أصولها في علم البيولوجية؛ أي: علم الحياة، كان اعتناء علماء عصرنا بدرس فروع البيولوجية لتأسيس علم الإنسان لا يماثله اعتناء. ثم إن معرفة حقيقة هذا العلم متوقفة أيضا على أمر مهم من متعلقات علم الفلك، وهذا الأمر هو مبادرة الاعتدالين، وهو وإن كان مذكورا في جميع كتب الهيئة منذ هيبرخوس إلا أنه لم يكن يظن أحد قبل الآن أن له تعلقا بارتقاء الإنسان، وأما الآن فيعتبر عند جمهور الجيولوجيين أنه سبب حصول الأدوار الجليدية في أوقات معينة.
وقد ظهر من الأبحاث المختلفة أن بين الإنسان وبين الأدوار الجليدية نسبة شديدة، بحيث تؤثر في نموه وتمدنه، وبهذا الاعتبار تنبئنا عن ماضيه ومستقبله بأمور كانت تبقى مجهولة لولا ذلك؛ ولهذا لا بد قبل الشروع في هذا البحث من التكلم قليلا عن الأدوار الجليدية على ما يذهب إليه جمهور الجيولوجيين تمهيدا للموضوع فنقول: رأى الجيولوجيون في نقبهم بعض الجبال أن سطح الصخر الذي يؤلف جانب الجبل أملس وعليه ثلوم متوازية كأنها مصنوعة بالإزميل (انظر وجه 195 من السنة الثانية)، ورأوا أيضا حجارة هائلة، بعضها مبدد في منحنى الجبل من سفحه إلى قمته وبعضها بعيد عنه في السهول المجاورة، وقد لاحظوا، أيضا، على مسير هذه الحجارة خطوطا متقطعة ممتدة من محل استقرارها إلى قمة الجبل، فحكموا أن الحجارة المذكورة قد انفصلت من الجبل بقوة ما واستقرت على أبعاد مختلفة بحسب القوة التي أبعدتها، وأن الخطوط آثار مرورها على الأرض في انحدارها، وأول ما شاهدوا هذه الحجارة الهائلة والثلوم والخطوط في جبال ألبا.
ثم رأوها في جبال أخرى في شمالي أوروبا، وظهر لهم أنها تزداد وضوحا كلما تقدموا إلى الشمال، وقد توهموا أنها تتجه دائما من الشمال إلى الجنوب فقالوا: إن سببها ارتفاع مياه الأوقيانوس المتجمد الشمالي بغتة، واندفاع الجليد منه قطعا هائلة على الأرض بقوة عنيفة ساقت أمامها ما اعترضها من الحجارة وغيرها، وثلمت سطوح الصخور الملساء، وهذا هو مذهب الطوفان، وعضد هذا المذهب كوفيه، الطبيعي الشهير وبقي معولا عليه إلى سنة 1830، وحينئذ قام ليل الجيولوجي الإنكليزي فناقضه قائلا: إن الظواهر الطبيعية الحادثة على سطح الأرض ليست نتيجة انقلابات فجائية لا تدرك أسبابها، بل هي حادثة عن عوامل طبيعية تتم أمامنا ببطء شيئا فشيئا، وإن هذه العوامل المتناقضة النتائج مرجعها كلها إلى القوات النارية التي ترفع سطح الأرض، وإلى فعل الهواء الذي يفتت الصخور ويعري الجبال وينقل التراب ويملأ به الأودية. ثم تحقق الجيولوجيون، خلافا لما كانوا توهموه، أن اتجاه الخطوط من الشمال إلى الجنوب ليس مطردا، بل يتبع مسير الماء كيف كان مجراه، فيكون، أيضا، من الجنوب إلى الشمال كما في جبال البرينه، وهذا الاتجاه لا يصح أن يكون حادثا عن طغيان الأبحر الشمالية.
فتحول فكر العلماء حينئذ للبحث عن أسباب أخرى طبيعية، فتحقق شمبر، أحد الطبيعيين الجرمانيين، من أنهار الجليد الحاضر أنها تترك في سيرها حجارة هائلة وصخورا مثلمة شبيهة بما يوجد في الطبقات السفلى، وإنما الفرق بينها أن القديمة أكثر امتدادا؛ فاستنتج من ذلك أنها؛ أي : القديمة، حصلت من أنهار جليد أعظم من الموجودة الآن. ولكن لما كان بين هذا القول وبين التعاليم المعول عليها حينئذ بون عظيم لم يعبأ به. وفي سنة 1840 نشر أكاسيز الشهير كتابا بهذا المعنى بين فيه وجود دور جليدي في الأدهار الغابرة، وأبدى رأيه عن أنهار الجليد القديمة، وعن نتائج امتدادها العظيم؛ فلشهرته انتبه كثير من العلماء إلى ذلك، وسافر جماعة من جيولوجي الإنكليز ومنهم ليل إلى جبال ألبا؛ ليتحققوا بأنفسهم فعل أنهار الجليد، ورجعوا مقتنعين مما رأوا.
ثم تحقق العلماء ذلك أيضا في جميع البلدان ذوات الجبال بوسط أوروبا وشماليها وشمال أمريكا وجنوبها، وفي جبال آسيا الوسطى، حتى إن مذهب الأنهار الجليدية عم الآن وصار حكما من أحكام الجيولوجيا. ولما تحققوا أن القسم الأعظم من نصف الكرة الشمالي اكتسى بالجليد بعدما تكونت أراضي الدور الثلاثي بقي عليهم أن يعرفوا ما هو السبب لحصول ذلك، فذهبوا مذاهب شتى، وارتأوا آراء متعددة أفضت، بعد المباحث الطويلة، إلى أن سطح الأرض لم يكتس بالجليد مرة واحدة فقط، بل مرارا متعددة في أدوار متعددة، وثبت عندهم أن هذه الأدوار الجليدية ترجع في أدوار منسوقة على نظام محدود. ولدى التأمل في هذا النظام أخذوا يبحثون عن السبب الذي تهبط به حرارة أحد نصفي كرة الأرض، فيبرد بردا شديدا يؤذن للجليد بالدوام أزمانا مديدة، ففطنوا إلى أمر مبادرة الاعتدالين وإلى انتقال محور دائرة الأرض العظيم، فسهل عليهم حل هذا المشكل.
فإن هذا المحور العظيم يتحرك تحركا بطيئا في دوران الأرض حول الشمس حتى يدور دورة كاملة بالنظر إلى الاعتدالين في إحدى وعشرين ألف سنة تقريبا كما يعلم من علم الهيئة، وفي هذه المدة يوافق بالضرورة خط الانقلابين مرتين فينطبق عليه لحظة من الزمان. وقد حدثت الموافقة الأخيرة سنة 1250 للميلاد، وحينئذ كانت نقطة الرأس في الانقلاب الشتوي، فتأتى من ذلك أن بلغت أيام الربيع والصيف في نصف الكرة الشمالي أعظمها، وطالت فصول الشتاء واشتد بردها جدا في النصف الجنوبي بحيث تولاه دور جليدي لم يزل حتى يومنا ؛ لأن ظروف المناخ لم تتغير من ثم كثيرا. ثم إذا تقهقرنا عشرة آلاف وخمسمائة سنة رأينا أن نقطة الرأس كانت في الانقلاب الصيفي، فحصل عكس ما تقدم؛ أي: إن فصول الشتاء طالت واشتد بردها في نصف الكرة الشمالي، فأحدثت عليها دورا جليديا، فكل 10500 سنة يحصل دور بارد جدا، شمالي ثم جنوبي على التعاقب، بحيث تتوالى الأدوار الجليدية على كل من نصفي الكرة كل إحدى وعشرين ألف سنة. •••
فلننظر الآن إلى الأنهار الجليدية من جهة تأثيرها في نوع الإنسان، فأول ما يتضح لنا هو سبب الاختلاف العظيم بين أهل الشرق والغرب وجهة تاريخهم، ولولا ذلك لكان تاريخهم يبقى في غاية الإبهام، فلا يخفى أن تاريخ الإنسان الشرقي أقدم جدا من تاريخ الإنسان الغربي، فإن أقدم آثار الإنسان التي وجدت في أوروبا لا يتجاوز عمرها 7000 إلى 8000 سنة حسب تعديل الجيولوجيين بناء على أقدم الآثار الموجودة حديثا. وأما آثاره الدالة على تمدنه في الشرق فيصعد تاريخها، كما في بلاد مصر، إلى 15000 سنة حسب تقويم أعدل الجيولوجيين، وذلك موافق لرواية مانثون الذي أمره بطليموس فيلادلفوس، فنقل عن الكتب المقدسة لهيكل اليوبوليس العظيم تاريخ مصر منذ أيامها الأولى، وضمنه في ثلاثة مجلدات لم يصل إلينا منها سوى بعض فقرات وفصول ذكرها المؤرخون القدماء الذين جاءوا بعده كهيردوطوس وغيره؛ على أنه لم يكن أحد قبل الآن يثق بصحتها؛ لما بين التواريخ التي ينسبها إلى دول مصر وبين التعاليم الشائعة من الفرق البين حتى جاءت أخيرا الأبحاث الجيولوجية مؤيدة صحتها.
صفحة غير معروفة