مباحث علمية واجتماعية

شبلي شميل ت. 1335 هجري
119

مباحث علمية واجتماعية

تصانيف

4

وما قلت حتى اليوم غير الحق، وما نطقت بغير الصدق؟ يعترف لك بذلك العدو قبل الصديق، ونفسك من وراء ذلك لا ترتاب؛ لأنك في كل ما تقول تعرض عن الأشخاص، ولا تشدد الطعن إلا على المبادئ. فما أنت ممن يحب في البحث التعرض للآحاد، بل تتصدى للجموع، ولا الوقوف على الجزئيات، بل تتخطاها إلى الكليات. تشهد بذلك مباحثك كلها، والكتابة مرآة الأفكار، والأفكار صور الأميال، فلا تخالف أميالك؛ لأن الشر في الدنيا إنما نشأ عن مخالفة هذه الأميال لاعتقاد الأوائل أن العنصر الغالب في الإنسان هو الشر، فحاولوا في تعاليمهم كلها مقاومة أمياله الغريزية، وعلموه أن يخالفها، فاكتسب صفات غير صفاته الطبيعية، صفات مشوهة، يجهد الإنسان نفسه لتطبيقها على طبيعة مختلفة عنها في المبدأ، تنقلب شرا إذا خلا بنفسه عن نظر الرقيب؛ مما يدلك على أنها صفات مصطنعة لا طبيعية. ولا يصح هذا المبدأ حتى يصح أن جمال الصناعة أفضل من جمال الطبيعة، و«ليس التكحل في العينين كالكحل»، حتى صارت كل أعمال الناس مصانعة تنطبق على قوله:

أرائيك فليغفر لي الله زلتي

بذاك ودين العالمين رياء

فالإنسان لم يكذب إلا لأنهم عاقبوه على الصدق، ولم يسرق إلا لأنهم حجبوا عنه ما يحتاج إليه. ولا ريب أن كثيرين يستغربون هذا القول، واستغرابهم له هو الباعث على ذكره؛ لأن استغراب الشيء يحدث في العقل رجة كثيرا ما تكون في أول الأمر ضد هذا الشيء والمنبه إليه، إلا أنها لا تلبث أن تحمل هذا العقل نفسه على التفكير والبحث. وهذا يزحزحه عن مألوفه المتقادم عليه، ويطلقه من عقاله المخمول فيه. والكتابة إن لم يكن فيها ما ينبه الأفكار بسطا أو إلماعا، ويفسح للعقل مجال البحث؛ لم يكن فيها شيء مفيد، وكانت كبيت الشعر المستوفي قواعد الوزن والإعراب الخالي من المعنى؛ أي كأكثر أشعار هذا العصر.

5

وهذا الميل في الإنسان إلى تشويه الأخلاق، أي الصفات الأدبية، ظاهر فيه أيضا في تشويه الخلق، أي الصفات الطبيعية، مثل: تشريح الخدود عند الزنوج، والوشم عند أكثر قبائل الشرق، وتشويه الرجلين عند الصينيين. وذكر أبقراط جيلا من البشر كان يطلق عليه اسم المكروسفال، أي الرءوس المتطاولة، كان يشوه رءوس أطفاله حتى تتطاول. وذكر شعبا من الصقالب كان يشوه صدور بناته بإزالة ثديهن الأيمن بالكي بالنار وهن طفلات.

6

وقد جرى الناس في تشويه الأخلاق مجراهم في تشويه الأجسام، وهم في الحالين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، إلا أن تشويه الصفات الطبيعية قلما يكون له أثر يتجاوز الواحد من الناس، وقلما ينتقل بالوراثة، فلا يخشى تأصله. ولعل صعوبة انتقاله بالوراثة هو الذي صرف الناس عنه بسرعة أعظم من سرعة انصرافهم عن تشويه الأخلاق حتى قل ذلك اليوم، وانتفى أكثره من بين الجمعيات المتمدنة، وانطفأ أثره بانطفاء المشوهين أنفسهم. وأما تشويه الأخلاق فأرسخ أثرا وأسهل انتقالا بالوراثة، وأصعب انتباها إليه؛ ولذلك لا يزال أثره شديدا حتى اليوم في أعظم الجمعيات المتمدنة. ولهذا نرى الناس في تعاليمهم الدينية والأدبية حتى الطبيعية حاولوا إدخال هذا المبدأ، فعلموا قهر النفس، وعدوا ذلك من الفضائل والمداجاة، وعدوها من حسن السلوك والدهاء. ومن قهر النفس إلى انفجار غضبها وارتكاب المنكر، ومن المداجاة إلى الرياء والكذب، لا يوجد إلا خطوة. فتولدت في الإنسان أميال لم تكن فيه، واكتسب عيوبا كثيرة كان يمكن ألا يعرفها. وكثير من الأمراض العصبية نشأ وتأصل وانتقل في نسله بسبب ذلك. ولم يقتصر ذلك على العلوم الأدبية، بل العلوم الطبيعية نفسها لم تسلم من هذا المبدأ؛ فلقد طالما عدوا أميال الطبيعية ضلالات، فاجتهدوا في مقاومتها، فكم من مريض بات يتقلى على جمر الحمى، فلا يسمحون له حتى ولا بالهواء، ويشكو الظماء فلا يجودون عليه بجرعة من الماء، وربما أكثروا له من الدثار، وأوقدوا في غرفته النار.

وإن العقل ليحار كيف تولدت هذه التعاليم؟ وكيف تمكنت من الناس حتى صار التمسك بها يعد فضيلة وصوابا، والخروج عنها رذيلة وخطأ؟ وربما لم يكن الوقوف على أصلها متعذرا، والعلم بنشوئها ممتنعا، إلا أن الإفاضة في ذلك تدفعنا إلى مبحث يطول به الكلام، ولا يسمح به المقام، وربما عدنا إليه في فرصة أخرى.

صفحة غير معروفة