وقد حدد هنريك هيني في كتابه الممتع (الدين والفلسفة في جرمانيا) مذهب الحلول الذي قال عنه: «إنه دين ألمانيا المختفي في نفوسهم.» فقال: إن الله هو العالم، وقد تجلى الله في النبات بنوع حياة؛ حياة مغناطيسية لا تنبهية، وتجلى في الحيوان بحياة تشبه حياة النائم، فهو يحس نوع إحساس بأن له وجودا، ثم تجلى أعظم تجل في الإنسان، فهو يشعر ويفكر، ظهر الله في الإنسان بمظهر الشاعر بنفسه، ولست أعني فردا من أفراد الإنسان، وإنما أعني النوع الإنساني كله، فيحق لنا أن نقول: «إن الله قد تجسد في ذلك النوع الإنساني.»
وإذا نحن حاولنا أن نذكر تاريخا كاملا لقضية العالم الدينية، فمعنى ذلك أننا نريد ذكر تاريخ الفلسفة كلها، وليس في وسعنا ذلك؛ ولذلك سأقتصر على ذكر أسماء قليلة من هؤلاء الذين قالوا بالمذاهب الأربعة التي تقدم ذكرها؛ وأعني بها مذهب الجوهر الفرد، ومذهب المؤلهة، ومذهب العقليين، ومذهب الحلول.
أسس مذهب الجوهر الفرد «ليوسيبس» وتلميذه ديمقريطس، وجاء أنكساغوراس فرأى أنه لا بد من قوة أو عقل مدبر هو السبب في نظام العالم، ومن أجل ذلك قال بوجود عنصر قد منح القوة والحياة والعقل والعمل والحرية، وهو منبع نظام العالم وحياته وحركته، وسمى هذه القوة نوس
Nous «العقل»، وهذا العقل هو الروح التي أخرجت من العماء نظاما، وهو المحرك الأول للمادة، ولكنه ليس الخالق لها؛ فإنها أزلية. ويخالف هذا المذهب مذهب المؤلهة؛ فإنه يرى أن الله خالق المادة من العدم، وهذه العقيدة هي أساس كل العقائد الدينية، وقد اتبع مذهب المؤلهة «أفلاطون» و«أرسطو» و«ليبنتز» و«كانت»، واعتقدوا أن الله هو العلة الأولى لهذا العالم.
ومذهب العقليين يقول بوجود إله يشرف على الكائنات ويحكم العالم، ولكن لا عن إرادة حرة، بل يحكمها متبعا قوانين لا تقبل التغير؛ وقد ظهر هذا المذهب أولا في إنجلترا في القرن الثامن عشر، وكان «تولاندوم. تندال» وشافتسبري أشهر المدافعين عنه.
أما مذهب الحلول فقد كان يدعو إليه ريك فيدا
Rig Veda (كتاب الهنود المقدس) وقدماء فلاسفة اليونان الإيليون، وكان القديس بولس نفسه يدعو إلى الحلول لما قال: «في الله نحيا، وفيه نتحرك، وفيه نكون.» وكان «زينو فانيس» يعلم أن ليس إلا إله واحد، وأنه هو والعالم شيء واحد.
ونحو آخر القرن السادس عشر، قام «جيوردانو برونو» ولم يعبأ بتهديدات محكمة التفتيش ورفع صوته بتأييد الحلول، والطعن على مذهب المؤلهة الذي يشبه الله بالإنسان، وعنده أن الله الذي لا يحده حد والعالم شيء واحد، وأن هؤلاء الذين يتخيلون أن الله موجود بجانب الموجودات الأخرى إنما يجعلونه محدودا، وأن ليس الله خالق العالم ولا المحرك الأول له، بل هو الروح العالم.
وجاء «سبينوزا» الأمستردامي 1632-1677 ونظم مذهب الحلول، ولذلك يعد أبا الحلول الحديث، وأصبحت كلمتا الاسبينوزية ومذهب الحلول مترادفتين، ويمكن تلخيص مذهب سبينوزا فيما يأتي: إن في العالم جوهرا واحدا وهو الله، وهو مطلق لا يحد، وكل الجواهر الأخرى المحدودة منبعثة منه ومظروفة فيه، وليس لها إلا وجود زائل سائر إلى الفناء، ولله صفتان يظهر بهما لنا نفسه: الامتداد والفكر، فبالامتداد المتنوع تتكون الأجسام، وبالفكر المتنوع تتكون العقول، وهاتان الصفتان ثوبان لله نسجتهما «المكوكات الدائمة الحركة في نول الزمن العاصف».
ولما أعلن سبينوزا حكيم «أمستردام» الأوحد عقيدته هذه ثار عليه أنصار الدين واتهموه بالإلحاد، وما كان أبعده عن الإلحاد؛ فقد كان مملوءا بحب الله حبا جاءه عبر الطبيعة، فمن كأس الطبيعة الطافحة قد شرب الألوهية حتى ثمل، وحتى أصبح لا يرى أمامه إلا الله، وبالرغم مما وجه إلى سبينوزا من الضربات القاسية كان له تأثير عظيم في أكبر العقول في أوروبا، «فشلر» و«جوتيه» و«لسنج» و«هردر» و«شلر ماكر» و«هيني» و«شلي» كانوا حلوليين، وإن شئت فقل: سبينوزيين.
صفحة غير معروفة