بعد هذا تحول الفكر اليوناني والأبحاث الفلسفية عند اليونان تدريجا إلى الإنسان نفسه، فكانت أعماله موضع البحث، وأغفلوا البحث في العلم الطبيعي الذي كان قبل موضوع الفلسفة، واتجهت أبحاثهم نحو قوى الإنسان الباطنة، فبحثوا في القوة المفكرة والقوة المريدة وعمل هاتين القوتين، أعني التفكير والإرادة، وكيف تنشأ الفكرة والإرادة؟ وفي ذلك الحين ظهرت في عالم البحث مسألة جديدة؛ وهي: هل حقائق الأشياء ثابتة؟ وهل هناك شيء حق أو صواب أو خير قائم بنفسه لا علاقة له بآرائنا الشخصية؟ وفي هذا العصر أيضا - الذي يسمى العصر الإنساني أو الأنثروبولوجي نظرا لاتجاه بحثه نحو الإنسان، وتمييزا له عن العصر الذي قبله - عصر النظر إلى العالم ظهرت مبادئ القضايا الأخلاقية والمنطقية والنفسية «السيكولوجية»، ومن رجال هذا العصر: سقراط، والسوفسطائيون الذين من أشهرهم: بروتاغوراس وهبياس وبروديكوس، وقد وافق سقراط السوفسطائيين في توجيه بحثه نحو الإنسان، وخالفهم بقولهم: إن حقائق الأشياء ثابتة؛ إذ كانوا ينكرون ذلك، وحاول - بالبحث العلمي - تقرير مبادئ ثابتة يؤسس عليها سلوك الناس ومعاملتهم الأخلاقية. وقد أسست على مبادئ سقراط مذاهب ظهرت بعد أشهرها مذهب الميغاريين
2
أسسه إقليدس ومذهب الكلبيين
3
أسسه أنتسثنيس، ومذهب القورينائيين
4
أو مذهب السعادة أسسه أرسطبس.
وقد كان هذان النوعان من البحث الفلسفي - أعني البحث في العالم والبحث في الإنسان - مقدمة لأعظم رقي للفكر اليوناني، وقد ظهر ذلك الرقي في عصر البحث المنظم، وبلغ أوجه في النظم الفلسفية التي وضعها ديمقريطس وأفلاطون وأرسطو، ففي الدورين الأولين - دوري البحث في الكون والإنسان - كان مدار بحث الفلاسفة مقصورا على عدد محدود من المسائل، أما في دور البحث المنظم فقد كان مدار البحث أوسع، وشمل القضايا الطبيعية والنفسية، وقد استعمل عظماء هذا الدور مثل ديمقريطس وأفلاطون وأرسطو - ولا سيما الأخير - معارف من قبلهم، وبحثوا الأشياء من جميع جهاتها بحثا علميا، ووجهوا نظرهم إلى البحث في كل المسائل العلمية، فأخرجوا للناس علما منظما شاملا كاملا، قال فندلبند: إن تنظيم العلم وتوسيع نطاقه حتى يشمل كل النظريات الفلسفية منزلة أمكن لديمقريطس وأفلاطون وأرسطو أن ينجحوا في الوصول إليها، وكان الأخير منهم أول من قسم العلوم وجعل لكل علم دائرة بحث خاصة، ومن أجل هذا يعد أرسطو خاتمة عصر نشوء الفلسفة اليونانية، وفاتحة عصر العلوم المتميزة،
5
وأرسطو هو الذي لخص الأفكار اليونانية وصفاها، وأخرج للناس نظاما للفلسفة كاملا، وبحث في كل فروعها - أعني ما وراء المادة والمنطق وعلم النفس والأخلاق والسياسة والجمال.
صفحة غير معروفة