معارج القبول بشرح سلم الوصول
محقق
عمر بن محمود أبو عمر
الناشر
دار ابن القيم
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤١٠ هـ - ١٩٩٠ م
مكان النشر
الدمام
تصانيف
وَوَلَدُهُ وَنَعِيمُهُ وَيَمُوتُ كَذَلِكَ، وَنَرَى الْمُطِيعَ الْمَظْلُومَ يَمُوتُ بِكَمَدِهِ، فَلَا بُدَّ فِي حِكْمَةِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الْعَادِلِ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِنْصَافِ هَذَا الْمَظْلُومِ مِنْ هَذَا الظَّالِمِ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ هَذَا فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ هُنَاكَ دَارًا أُخْرَى لِهَذَا الْجَزَاءِ وَالْمُوَاسَاةِ١.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الرُّومِ: ٨] يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى التَّفَكُّرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِهَا وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ يَعْنِي بِهِ النَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ وَالتَّأَمُّلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﷿ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا بَاطِلًا بَلْ بِالْحَقِّ وَأَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [الرُّومِ: ٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٤] أَيْ: لِلْحَقِّ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أَيْ: فِي خَلْقِهَا ﴿لَآيَةً﴾ أَيْ: لَدَلَالَةً ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُتَفَرِّدُ بِالْقَدَرِ وَالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: بِالْعَدْلِ ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الْجَاثِيَةِ: ٢٢] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأحقاف: ٣] أَيْ: لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ أَيْ: وَإِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مَضْرُوبَةٍ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي تنتهي إليه السموات والأرض وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى فَنَائِهِمَا. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [الْقِيَامَةِ: ٣٦] قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي لَا يُبْعَثُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الْحَالَيْنِ، أَيْ: لَيْسَ يُتْرَكُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَلَا يُتْرَكُ فِي قَبْرِهِ سُدًى لَا يُبْعَثُ، بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ فِي الدُّنْيَا مَحْشُورٌ إِلَى اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ٢.
_________
١ تفسير ابن كثير "٤/ ٣٦".
٢ تفسير ابن كثير "٤/ ٤٨٢".
1 / 81