وحسبنا من سيرة هؤلاء الأفذاذ النابغين، أنهم أنصار الآداب العربية، في بلاد لا صلة بينها وبين آداب الشرقيين، فقد كتبوا وجودوا، ونظموا فأبدعوا، وترنموا فأطربوا، ونادوا فأسمعوا. بيد أنا ونحن في مقام الاعتراف بالجميل، وحب اطلاع القراء على شيء من مختاراتنا من كلام أولئكم الأدباء، رأينا من الحسن، أو مما لا مندوحة لنا عنه، أن نلفت ذهن قارئنا الفطن إلى نقطة هامة، وبودنا أن نجعلها نصب عينيه، وأمام خاطره، حين مطالعته كتابنا هذا، بل ومطالعة كل ما نختاره من كتابات إخواننا في المهجر، وهي أن هذه الطائفة المتأدبة، قد تضلعت بعد هجرتها بآداب الغربيين، فخالطت تلك الآداب نفوسهم، وانطوت عليها جوانحهم، فربما تغالوا فيها حينما يريدون مزجها بالآداب العربية، فلا يراعون في شعرهم قوانين القريض العربي، ولا يتقيدون بأوزانه وقوافيه، بل يطلقون لملكاتهم الأعنة خلف الأساليب الغربية، فيجيء شعرهم ونثرهم رافلا في حلله الغربية، أكثر منه اتشاحا بالحبرات اليمانية، والبرد النجدية، والأكسية العراقية، والسمات العربية، ولكل وجهة هو موليها.
على أننا لو أرجعنا البصر إلى تاريخ الآداب العربية، لرأينا من رجالات الأدب العربي وفحول القرون الأول، من قد سرى إلى أذهانهم شيء من هذه الأساليب، وقتما استوطنوا الجزيرة الأندلسية، إلا أنهم أدخلوه على الأدب العربي، مع مراعاة مقومات اللغة التي ينتمون إليها، ويحافظون على مشخصات آدابها.
وقصارى القول، أننا نغبط أنفسنا بنشر هذه الآثار، التي نرى فيها نفعا كبيرا لجمهور أهل الأدب، فثقتنا بالقراء الكرام، وحبهم للاطلاع على نافع الموضوعات، وحسن مؤازرتهم لنا، بإقبالهم على مطبوعاتنا؛ حبب إلينا إجهاد النفس في هذا العام، بطبع عدد غير قليل من الكتب الاجتماعية، والسياسية، والأدبية، والتاريخية.
وإنا نختم مجهودنا، بهذا السفر النافع لمن يطلع عليه، وينظر في صفحاته بإمعان، ثم ندع اليراع في هذا العام، طلبا لراحة الجسم وترويح الفكر؛ فإن لبدنك عليك حقا، والسلام.
توفيق الرافعي
القاهرة في مايو سنة 1922
أمين الريحاني
إن حاجتنا إلى التهذيب اليوم، لأشد منها إلى السكك الحديدية والتلفونات. إن حاجتنا إلى العلم الصحيح الذي يهذب الأنفس، ويرقي العقول، ويثقف الأخلاق، لأشد منها إلى العلوم اللغوية، والفقهية، واللاهويتة، والخنفشارية، والتهذيب الصحيح ينبغي أن يعم عناصر الأمة بأسرها على السواء، ليأتي بفائدة تذكر للأمة، وعندي أن أشد الويل والبلاء، إنما هو في بيت يعيش تحت سقفه الجاهل والعالم معا. إن وطننا بهذا البيت أيها الأخوان، وعناصر الأمة فيه كأفراد تنافرت أذواقهم وأخلاقهم، وتعددت صبغاتهم القومية والدينية، وتباينت فيهم درجات المدارك والعلوم، فإذا ارتقى عنصر من عناصر الأمة دون سواه، يلتجئ غالبا إلى المهاجرة، إذا ظلت العناصر المنحطة واقفة في طريق ترقيه، كالسد في وجه المياه، أما الآية:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ، فالتاريخ لا يشهد على صحتها إلا مرة في الألف؛ لأن الطبيعة لا تسمح أن تكون المعجزات فيها مبتذلة، والغالب المبتذل هو أن الأكثرية إن كانت في المجالس النيابية أو في الطبيعة تتغلب على الأقلية.
على حكومتنا الدستورية إذن أن تنتبه إلى هذا الأمر الخطير، إن كانت ترجو أن ترتقي الأمة وتحيا. على حكومتنا أن تباشر تأسيس المدارس الوطنية العمومية الإجبارية المجانية، المجردة عن كل صبغة دينية، وإن كانت لا تباشر قريبا، فلا ترج يا أخا الحماسة، كبير خير من هذا الانقلاب، ومن هذا الدستور، ومن هذا المجلس النيابي.
صفحة غير معروفة