وقد قضينا تلك الساعة في مكان يظهر أنها لم تكن تجهله ولم يكن يجهلها.
ورجعنا بعد ذلك وركبنا عربة كانت تنتظر بجوار قهوة البسفور، ولما وصلنا لميدان عابدين سألتني أن أغادرها هناك، فأجبتها لسؤالها عن طيبة خاطر، وأعطيت الحوذي عشرة قروش، وودعتها بعد أن تواعدنا على اللقاء بعد يومين.
ثم تركتني وسارت في طريقها بعد أن استحلفتني أن لا أتبعها، ولما كادت أن تغيب عن عيني قام بنفسي أن أعرف أين تسكن؛ حتى إذا ما أخلفت موعدها معي انتظرتها كل يوم أمام باب بيتها. ولما اقتربت منها سألت الله أن لا تلتفت فتراني، فإذا بي أراها بعد قليل تسير في عطفة «ال ...»، فدق قلبي دقات متوالية، ثم وصلت للمنزل رقم (22)، والتفتت لترى إن كان هناك أحد يتبعها، ولكنها لم تتبيني في الظلام؛ لأن الشارع لم يكن من الشوارع المضاءة، ودخلت المنزل فوقفت كالصنم لا أتحرك، ثم عدت وأنا كاسف البال.
يا للعار! لقد ارتكبت إثما هائلا، ولكني لم أتعمد ارتكابه. لقد أصبحت حليلة صاحبي خليلة لي، ولكنها كانت خليلة سواي من قبل. •••
في الغد ذهبت للديوان، وجلست بجوار أمين، وتحادثنا كالعادة، وذهبنا عصرا لسبلنددبار، وتناولنا العشاء في أبليسك، وقضينا ليلتنا معا في ماخور من مواخير العاصمة، كأن لم يكن شيء حدث بالأمس.
18 يونيو سنة 1917
بيت الكرم
أسرة مجدي مشهورة في مصر بالثروة والجاه، يؤمها المستغيث ويقصدها كل ذي حاجة. توفي ربها المرحوم عبد الله بك مجدي عن ستين عاما قضاها - كما قالت الجرائد - في عمل الخير والبر والإحسان، تاركا ولدين يبلغ أكبرهما الثلاثين والآخر لا يتجاوز العاشرة، وثلاث بنات أبكار لم تسعد أكبرهن بعد بالزواج.
ورث المرحوم عن أبيه ثروة طائلة تزيد عن ألفي فدان، أضاع معظمها حبا في الخمر وسعيا وراء النساء، فلم يترك لأولاده بعد موته إلا ثلاثمائة من الأفدنة وعشرة من الرفاق، كان ينفق عليهم من حر ماله، وكانوا يقضون معه الليل والنهار ليأتنس بحديثهم ويقتل الوقت معهم، وأصبح الولد الأكبر - محمد بك مجدي - بعد وفاة أبيه رئيس أسرة مجدي، وناهيك عن قيمة هذا اللقب في أعين الرفاق العشرة بعد أن وجدوا في الولد خير خلف لأبيه، فلقبوه بابن العز والإمارة ورب البيت الذي لم يغلق بابه في وجه سائل. ولم يكن محمد بك تلقى من العلم والتربية ما يلهمه أن يضرب بأقوالهم عرض الحائط، وأوحى إليه الجو الذي نشأ فيه أن لا يحيد عن الخطة التي اختطها أبوه لنفسه من قبل؛ فرحب بالرفاق وجلس بينهم كما كان يجلس أبوه في صدر المكان وهم حواليه يكاد يدفعهم الخشوع والامتثال إلى الركوع والسجود. •••
نزل محمد بك من الحريم إلى السلملك وهو مرتد جلابية بيضاء وعباءة من الحرير الأبيض، وكان عاري الرأس منتفخ العينين، وقد نسج السهر لكل واحدة منهما إطارا أحمر، لو رآه طفل صغير في رابعة النهار لولى الأدبار خائفا أن ينقض عليه ذلك البعبع فيهشم عظامه أو يسيل دماءه.
صفحة غير معروفة