[وكان المكتفي على بن أحمد يشكو علة في جوفه، وفسادا في أحشائه، فاشتدت العلة به في شعبان من هذا العام، وأخذه ذرب (1) شديد أفرط عليه، وأزال عقله، حتى أخذ صافي الحرمي خاتمه من يده، وأنفذه إلى وزيره العباس بن الحسن وهو لا يعقل شيئا من ذلك وكان العباس يكره أن يلي الأمر عبد الله ين المعتز، ويخافه خوفا شديدا، فعمل في تصيير الخلافة إلى أبي عبد الله محمد بن المعتمد على الله، فأحضره داره ليلا، وأحضر القاضي محمد بن يوسف وحده، وكلمه بحضرته، وقال له : مالي عندك إن سقت هذا الأمر إليك؟ فقال له محمد بن المعتمد: لك عندي ما تستحفه من الجزاء والإيثار وقرب المنزلة فقال له العباس: أريد أن تحلف لى ألا تخليني] (2) من إحدى اثنتين إما أردت خدمتي فنصحتك وبلغت جهدى في طاعتك كما فعلت بغيرك، وإما آثرت غيري فوقرتني ولم تبسط علي يدا في نفسي ولا مالي ولا أحد بسيبي . فقال له محمد: لو لم تسق هذا الأمر إلي ما كان لي معدل عنك في كفايتك وجميل أثرك فكيف مع هذا اليد؟ فقال: أريد أن تحلف لي على هذا، فقال له : إن لم أفي لك قولا بغير يمين لم أف لك باليمين. فقال له القاضي: ارض منه بهذا فإنه أصلح من اليمين، فقال العباس: قد قنعث ورضيت، ثم قال مد يدك حتى أبايعك. قال: وما خبر المكتفى ؟ قال: في آخر أمره وأظنه تلف. قال محمد: ما كان الله جل اسمه ليراني أمد يدي إلى بيعة وروح المكتفي في جسده، ولكن إن مات فأنا أفعل ذلك. قال محمد بن يوسف: الصواب ما قاله.
~~فانصرفوا على ذلك. وأفاق المكتفي بالله وعقل أمره، وكنا ندخل إليه فنحادثه كل يوم وقد تردد في [1] العلة.
~~قال أبو بكر: فحضرت في شهر رمضان بعد أمر العباس هذا بأربعين يوما مجلس العباس بن الحسن الوزير، وفيه محمد بن المعتمد يناظر ابن عمرويه صاحب الشرطة في ميراث مولى له ثوفي وكان من أصحاب ابن عمرويه، فأخذ ماله ولم يعط محمدا منه شيئا، فأغلظ له محمد فرد عليه ابن عمرويه، جعل العباس يقول لابن عمرويه: أتقول مثل هذا لأبي عبد الله،
صفحة ٢١
ولا يقدر أن يرد عليه حذارا من أن يحقق عليه ويصح ما تحدث به الناس لما كان منه. وجعل محمد بن المعتمد يغتاظ وينتفض إلى أن فلج في وقته ذلك وسقط لجنبه. فأمر العباس بأن يحمل في قبة من قبابه على أفره بغاله، فحمل إلى منزله على تلك الصورة، واشتد الأمر به حتى يئس منه العباس بن الحسن فصرف الفكر إلى غيره. وتوفي محمد بن المعتمد (1) بعد شهور في أول خلافة المقتدر بالله.
~~قال أبو بكر: ولما أفاق المكتفي بالله [2 ا] قال له صافي الحرمي : إن رأى أمير المؤمنين أن يوجه إلى عبد الله بن المعتز ومحمد بن المعتمد، فيوكل بهما في داره. فقال: ولم ذلك؟
~~قال : لأن الناس ذكروهما لهذا الأمر . فقال له المكتفي: أبلغك أنهما أو أحدهما أحدث بيعة علينا؟ قال صافي : لا . قال: فما رأى لهما ذنبا بإرجاف الناس لهما بهذا الأمر وقد ولدهما خليفتان فلا تعرض لهما. ووقع هذا الكلام في نفسه فخاف أن يزول الأمر عن ولد أبيه، وكان ربما عرض لنا بالشيء من ذلك مستجرا للحديث في معناه. فحدثته أنا عن عمرو بن تركي القاضي قال : حدثنا القحذمي، قال شاور أبو العباس السفاح سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة المخزومي في تصيير العهد بعده لعمه عبد الله بن علي دون أخيه المنصور فقال له: يا أمير المؤمنين : أحدثك حديثا تستدل به على ما تفعله، كنت مع مسلمة بن عبد الملك بالقسطنطينية وقد أتته وفاة سليمان بن عبد الملك بن مروان وسعي الناس (2 ب] بالخلافة لعمر بن عبد العزيز، فجزع جزعا شديدا لموت سليمان فقلت له لا تجزع لموت سليمان، ولكن اجزع لخروج الأمر من ولد أبيك إلى ولد جدك. قال فأمسك أبو العباس واعتقد العهد لأخيه دون عمه فأعجب هذا الحديث المكتفي بالله ووافق ما في نفسه واستعاد فأعدته عليه. وحدثته أيضا : أن داود بن علي غم المنصور والسفاح قال لأبي العباس السفاح: يا أمير المؤمنين بايع الولي عهد من أهل بيتك، ليضبط الأمر بعدك لئلا ينتشر، فإن أمرنا قريث بعد. قال أبو سلمة الخلال الذي كان يدعى وزير آل محمد: هذا أمر يفعل فيه أمير المؤمنين ما رأى وما استعجالك أيامه كأنك تطمع فيها، والله ما لأحد من ولد جد أمير المؤمنين علي بن عبد الله أميل حظ فيها، ما دام من ولد محمد بن علي رجل، قال: فاضطغنها داود عليه فلم يزل يحتال في أمره حتى قتله.
[خلافة المقتدر]
~~قال أبو بكر: فوافقت هذه الأحاديث [3 آ] ما في نفس المكتفي بالله، وخاف أن يخرج الأمر عن ولد أبيه. فلما اشتد [ت] (2) علته في ذي القعدة من سنة خمس وتسعين ومائتين سأل
صفحة ٢٢
عن أخيه أبي الفضل جعفر، فصح عنده أنه بالغ، فأحضره في يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة والقضاة وأشهدهم بأنه قد جعل العهد إلى أخيه جعفر بن المعتضد .
~~وتوفى المكتفي بالله يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة بعد صلاة الظهر، ودفن في يوم الاثنين في دار محمد بن عبد الله بن طاهر وبويع أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله، وسمي المقتدر بالله يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة في القصر طلمعروف بالحسني وأمه أم ولد يقال لها: «شغب» كانت لأم القاسم بنت محمد بن عبد الله بن طاهر فاشتراها المعتضد بالله منها.
~~وقال أبو بكر : وكان صافي الخادم المعروف بالحرمي، مضى إلى دار ابن طاهر ليلة الأحد لساعتين بقيتا [3 ب] من الليل فحدره. وكان العباس بن الحسن الوزير فى داره التى على دجلة، وظهرها إلى البستان المعروف بالزاهر، قد فارق صافيا على أن يجىء بالمقتدر بالله إلى داره حتى إذا دخلها أنحدر العباس معه منها ويضمن له صافي ذلك لئلا يقع خلاف فلما حدره وصار حيال دار العباس ، خرج خدم العباس، فقاموا على الشط ومعهم الشموع، ينتظرون أن يقرب الطيار إليهم فرأى صافي في ذلك ضعفا، وخاف حيلة وصاح بالملا حين فما عرجوا دون «الحسنىل، فكان هذا مما يعد من حزم صافى وعقله .
~~قال أبو بكر : ولما دخل المقتدر بالله «الحسني»، ورأى السرير منصوبا، أمر فبسط له حصير صلاة، فصلى أربع ركعات، وما زال يرفع صوته بالدعاء والاستخارة، ثم جلس على السرير، وبايعه الناس . وحضر العباس بن الحسن الوزير وابنه أحمد بن العباس، ودار الأمر على [يدي] (1) صافي الحرمي وفاتك المعتضدي ، [4 آ] وخلع المقتدر على الوزير أبي أحمد العباس بن الحسن في يوم الاثنين خلعا مشهورة الحسن، وقلده كتابته وأمر بتكنيته، وأمره أن تجرى الأمور مجراها. وقلد ابنه أحمد العرض عليه، وكتابة أخويه هارون ومحمد، وكتابة السيدة. وأطلق العباسع مال البيعة، وأعطى الفرسان ثلاثة أشهر، وأعطى الرجالة ستة أشهر.
~~وكان في بيت مال الخاصة) خمسة عشر ألف ألف دينارا، وفي بيت مال العامة ستمائة ألف دينارم ومن المدخور من ضرب كل سنة مما رسمه أن يحمل في أول السنة من المسيفات وغير ذلك (2) من آنية تقوم مقام العين ثمانية وعشرون ألف ألف دينارم ومن الجوهر والثياب المخزونة، والفرش والآلة، ما يزيد على جملة العين ويضعف. ومن الخيل خمسة عشر ألف
صفحة ٢٣
رأس ، ومن الكراع اثنى عشر ألف رأس . وأطلق للجلساء ( ) (1) إلى كل واحد، فطالبو بثالث ليكونوا أسوة [4 ب] الفرسان، فؤعدوا بصلة، ودنوا فقبلوا يد المقتدر بالله، ولم ينشده أحد شعرا. وكنت قد عملت أبياتا للوقت أولها: أضاء لنا وجه من القصر مشرق فأصبح للدنيا وللدين رونق فأنشدث منها أبياتا .
~~وعمل يحيى بن علي النديم قصيدة أولها: أراك اليقي الشك بعد التحير بمن لم يكن يعدوه حسن التخير فخرجت لنا صلة عشرة ألف درهم ، فاقتسمناها بيننا، وجاء متوج بن محمود بن مروان (3)، وكان برسم الجلساء بقصيدة، فدفعها إلى فاطمة القهرمانة فأمر له بمائتي دينار.
~~قال أبو بكر: وكتب العباس بن الجسن إلى الناس كتابا على نسخة واحدة. «قد قضى الله عز وجل في وفاة أمير المؤمنين المكتفي بالله ما قضاه في أنبيائه وجعله حثما على جميع خلقه، وخص بخلافته أمير المؤمنين المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله - أطال الله بقاءه وأدالم توفيقه وأحسن معونته فأعاد الأمر في نصابه، وقر [5 ا] الملك في قراره، وكمل به النعمة على كافة المسلمين للفضائل (4) التي خصه الله بها، وآثره بالأحسن منها، لقيامه بشرائع دينه، والعمل بكتابه وسنة نبيه - - ، واستشعاره التقوى في سر أمره وجهره وإفاضة العدل في رعيته وأهل نمته. وأجمع الخاصة والعامة على الرضا به، والاغتباط بدولته، فأقبلوا مسرعين، سامعين، مطيعين له بإخلاص نياتهم وانشراح صدورهم، وأنفساح آمالهم، وقوة عزائمهم، واتفاق أهوائهم، معطين بالبيعة صفقة إيمانهم، ووثائق ألسنتهم، عالمين ما في ذلك من اجتماع
صفحة ٢٤
الكلمة، ودوام الألفة، ولم الشعث، ورتق الفتق، وعموم النفع، وحياطة الحريم، وأمن السبيل قمع العدو، ورعي الدين وصلاح أمر المسلمين، شاكرين الله عز وجل على ما بلغهم إياه من تمليكه، وأسبل عليهم من الستر، والصيانة، بخلافته ووفقتهم له من حسن طاعته () (1) أمير المؤمنين مد الله أيامه وحرس [5 ب] من الغير دولته - من التفضل والإنعام والتشريف والإكرام والتقديم والإيثار بما يشبه المحل الذي أحله الله من الخلافة والسناء والرفعة. وكتابي هذا وأنا في شرف مجلسه، - أيده الله -. وعز قربه، وبحضرة من أهل بيته، وقواده، ومواليه، وغلمانه، وسائر طبقات أوليائه، فقد غمرني بتطوله وبره، وبلغني خطرا أعجز عن شكره، أمرني أن يكنى علي كل من أكاتبه، وأن تكون كتبهم إلي بما راه - أيده الله - من هذه المنزلة التى خصني بسنائها وشرفها، ورفعني بمنه وطوله إليها. وأنا اسأل الله عز وجل بقاء أمير المؤمنين في دوام العز والتأييد والعلو والتمكين، وأن ينهضني بتأدية حقوقه، واستفراغ الطاقة فى طاعته، ويعينني على بلوغ مرضاته، وما يكون كفاء لفضله لدي وإحسانه، وعرفتك ذلك لتأخذ نفسك به، وتجري عملك عليه حامدا لله تعالى على النعمة فيه ، شاكرا على ما وهب منه، إن شاء الله. (6 آ].
~~قال أبو بكر : وأمر العباس بن الحسن أصحاب الدواوين على ما كانوا عليه، وخلع على «اسوسن» مولى المكتفي بالله وحاجبه وقت وفاته، وجعله حاجبا على حاله التي كان عليها، وخلع على «فاتك المعتضدي» ولمؤنس الخازن»، ولايمن» غلام المكتفي ، وعلى «ابن عمرويه»، وهو على شرطة بغداد، وعلى «أحمد بن كيغلغ»، وكان قدم يوم تقلد المقتدر بالله الخلافة بقوم حاولوا فتح سجن دمشق، وسعوا في فتنة، فحملوا على جمال وألبسوا برانس.
~~وخلع على «المسمعي»، وعلى ابن «صوارتكين»، فمن كان إليهم منهم عمل كانت الخلع لإقراره، ومن لم يكن كانت الخلع تشريفا له. ورد المقتدر بالله رسوم الخلافة إلى ما كانت (2) يحيى بن علي المنجم النديم (241 - 300 ه) انظر سيرته ومجموع شعره في كتابنا «أربعة شعراء عباسيون» عليه من التوسع في الطعام والشراب ، وإجراء الوظائف، وإقامة الشمع الذي كان يقام للخلفاء وفرق في بني هاشم خمسة عشر ألف دينار، وتصدق في سائر الناس بمثلها، وأضعف لبني هاشم أرزاقهم فصار الرجل [6 ب] يقبض في كل شهر دينارا وكان يقبض نصف دينار. وأمر بأن تعاد رسوم الأضاحي، وتقدم في شرائها، ففرق في يوم التروية، ويوم عرفة من البقر والغنم ثلاثين ألف رأس، ومن الإبل ألف رأس على القواد والغلمان وأصحاب الدواوين والقضاة والجلساء، على مراتب كل طائفة منهم، وأمر بإخراج القواد المضربين (2) الذين حبسوا مع
صفحة ٢٥
«ابن الخلج» وكفل بعضهم من بعض وخلع عليهم، وقال : استصلحهم بالإحسان إليهم والرغبة، فإنه أحب إلي من من الإساءة والرهبة وأمر بإطلاق جميع من في المحابس ، ممن لا خصم له ولا حق لله عز وجل في حبسه. وأمر محمد بن يوسف بالنظر في أمورهم وتخلية من رأى تخليته منهم، ففعل ذلك وخلى منهم خلقا كثيرا . ورفع إليه أن الغلة (1) التي بناها المكتفي بالله في رحبة باب الطاق من قرب الجسر إلى أصحاب القلانس وما يليهم، قد أضرت بالمتعيشين من الناس، وأن هذه أمكنة كان الضعفاء والمتحملون يجلسون فيها [7 آ] لتجائرهم بلا أجرة لأنها طرق واسعة، فسأل المقتدر بالله عن غلتها فقيل تغل في كل شهر نحو ألف دينار، وستزيد على ذلك فقال : وما مقدار هذا في صلاح المسلمين، واستجلاب دعائهم، فأمر بها فنقضت وأعيدت إلى ما كانت عليه.
~~قال أبو بكر : وتكلم الناس في بلوغ المقتدر بالله فقال قوم: ولي ولم يبلغ، وقال قوم: بلى ولي وقد بلغ ذلك بشهور، وهذا هو الصحيح، لأن أخاه المكتفى بالله ما زال يتعرف ذلك، حتى صح عنده. وكان مولده لثآماني خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فكانت سنه يوم ولي الخلافة وهو يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين ثلاث عشرة سنة كاملة وشهرين، وكان بلوغه في شعبان من سنة خمس وتسعين فقال لي الوزير العباس بن الحسن اجمع شيئا «في صفة الأحداث والشبان» فألفت فى ذلك [7 ب] كتابا مشهورا وجمعته فما(استتمته حتى ولي علي بن محمد بن الفرات فأوصلت الكتاب إليه، وجعلت الخطاب له فكان ما فلي صدر الكتاب : «والسن لا تقدم مؤخرا ولا تؤخر مقدما بل رآبما عدل بجليل الأمور ومهم الخطوب إلى كملة الفتيان لالستقبال أيامهم، وسرعة حركتهم، وحدة أذهانهم، وتيقظ طباعهم، ولانهم على ابتناء المجد أحرص وإليه أصب وأحوج، وقد أخبر الله عز وجل أنه أتى يحيى بن زكريا - قعليكتل - الحكمة في سن ( الصبي) فقال: {يا يخيى حذ ألكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياه (2) فلم يمنعه صغر سنه أن آتاه الله الحكمة وأهله بحملها والقيام بها، والاستقلال بالكتاب، ثم جعل استقباله إياه بقوة.
~~حدثنا محمد بن يونس قال حدثنا على بن محمد الناقد قال حدثنا داود بن عمرو الضبي قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس - علي - قال ما بعث الله سبحانه [8 آ]) نبلا إلا شابا ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب، وتلا هذه الآية:
صفحة ٢٦
(قالوا سيعنا فتى يذكرهم يقال له براهيم» قال أبو بكر: عملت شعرا أخاطب فيه ابن الفرات وأصف المقتدر بالله وهو:
لتهنلكا يا خير مشتوزر
اخلافةآ خير الورى جعفر
امام هدي عمنا جوده
فأصبح كالعارض الممطر
أتم من الشمس في حسنها
وأزهر من بدرها الأزهر
وليت الأمور فأوردتها
موارد محمودة المصدر
وحطت الإمام وأمواله
علي رغم باغ ومستكبر
وقد أقبلت نحونا فثنة
تلروع پيجانبها الأوعر
فأشرق رأيك فى ليلها
وأوضح للسامع المبصر
وأصلحت بالعدل من جؤرها
وأسرعت بالعرف في المنكر
وكانت سعودك في نحسها
أتم سعودا من المشتري
وقومت في ساعة دولة
تميل بغيرك في أشهر (8 ب]
يقيت ولا زالت في نعمة
تدوم وتبقى على الأعصر
وكان الفضل بن جعفر (2) الكاتب بالشاعر، أشار على المستعين بأن يولى ابنه العهد وهه صغير، فقال في كلمة له : (3)
بك الله حاط الدين وانتاش أهله
من الموقف الدحض الذي مثله يردي
فول ابنك العباس عهدك إنه
له موضع، وائتب إلى الناس بالعهد
فإن خلفته السن فالعقل بالغ
به رتبة الشيخ الموفقا للرشد
فقد كان يحيى أوتي الحكم قبله
صبيا، وعيسى كلم الناس في المهد
قال أبو بكر : وأنا أذكر ها هنا شيئا من فضائل المقتدر بالله التي تفرد بها، ولم تكن في
صفحة ٢٧
خليفة قبله، ثم أعود إلى (9 أ] أخباره والحوادث في أيامه. فمن ذلك أنه لم يل الخلافة من بنج العباس أحد أصغر سنا منه، ولا من خلفاء بني أمية أيضا، فاستقل بالأمور ونهض بها وهو في ذلك السن ومن ذلك أنه لم يبلغ أحد في الخلافة ما بلغه من المدة ، حتى جاوز السن التي ظر قوم أن الخلفاء لا يجوزونها. وقد جاءت الراية أنه يملك خليفة من بني العباس أربعين سنة وذكر ذلك شعراؤهم فقال : «سديف» (21 يمدح المنصور : تسوس جميع الناس عشرين حجة عشرين أخرى مثبت ذاك في الحكم وهو القائل؟
~~تملك الناس أربعين خريفا لم يزل ثابتا مرويا فكنا نظن الأربعين سنة ستكون، وسيعيشها المقتدر بالله لما جاوز الأربع والعشرين سنة، حتى حدث ما حدث، فنحن نرجو [9 ب] أن تكون الأربعين والطؤل لله تعالى - للراضي إن شاء الله، ولا سيما مع الرؤيا التي راها حققها الله قبل قتل أبيه المقتدر بالله بنحو شهر. رأى كأن النبيخ - ومعه الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضوان الله عليهم وقوفا ، وكأنه واقفت بين يدي رسول الله - - فقال لعلي عليت : ألبس محمدا قميص أبيه إبراهيم، قال : فألبسنى قميصا سابغا على أنه ضيق قليلا ليس بالواسع، وعلى موضع الكتف من القميص نقطة دم. فأول الراضي أن نقطة الدم تأويلها ما كان من أمر أبيه المقتدر بالله. قال: ثم قال رسول الله- -: ادفعوا إليه عصا موسى فدفعها إلي علي - عليت - قال : فأخذتها فصارت في يدي حية ، وهي رؤيا طويلة، إلا أني جئت منها ها هنا بما يستدل على الأربعين إن شاء الله. قال: ثم قال النبئ - -: ناولوه [10 ا] البردة فناولنيها فلبستها. ثم قال - - : كم دفعت إليه؟ قال : ثلاثة. قال : ربع له بالقضيب. قال فدفع إلي علي - تلي* - فأخذته.
صفحة ٢٨
~~تتر اثأنا كلك فقلت هذه الأربعة أجل آيات الإسلام، وما يستدل به على طول أيام العلك، رله غه أمله فيه، لأن عصا موسى - صلى الله عليه - كانت أكبر آياته، فتأولت بهذه الأربع أربع نن الملك. ولما لم يكن أحد في وقتنا هذا يجوز أن يعيش أربع مائة سنة، قلنا إنها بعون الله أرفع ما يجوز أن يعاش من الإعداد فكان ذلك أربعين سنة حقق الله ذلك.ومما انفرد به المقتدر بالله من الفضائل أنه لم يعمر أحد من الخلفاء والملوك بعد رسول الله - - أكثر مما عمر، فإنه زاد على الرشيد وهو أكثرهم تعميرا في الخلافة عاش فيها ثلاثا وعشرين سنة وشهرا، فزاد المقتدر بالله اثنين وعشرين شهرا وقال أبو بكر: ومنها أن المعمرين من الخلفاء [10 ب]ا سبعة أولهم: معاوية ثم عبد الملك بن مروان ثم هشام بن عبد الملك. ثم من بني العباس أبو جعفر المنصور ثم الرشيد ثم المأمون ثم المعتمد. كل هؤلاء مات على فراشه وخص الله عز وجل المقتدر بالله بعد أن عمره أكثر من تعميرهم بالشهادة التي تمت بها طهارته، فأحياه الله سبحانه سعيدا، ثم أماته شهيدا، فانفرد من بين المعمرين بهذه الفضيلة.
~~قال أبو بكر : ومن فضائله أنه انفرد من الشرف ومن أبوة الخلفاء، بما لم ينفرد به سواه إلآ الخليفة الراضي، فإنه ساواه في ذلك وزاد عليه فأنا أبين ذلك وأشرحه إن شاء الله. لا نعرف خليفة ولي الخلافة وقد ولده ستة خلفاء، وأخوه خليفة مثل المقتدر بالله، فإنه ولده المعتضد بالله والمتوكل بن المعتصم بالله بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، فما انقطع اتصال الخلفاء إلا بالموفق بالله.
~~وحدثني محمد بن عبد الله التميمي قال حدثنا أحمد بن إبراهيم بن 113 ا] إسماعيل الكاتب عن أبيه قال: لما بلغ المأمون قول دعبل يهجوه: (1) اني من القوم الذين سيوفهم قتلت أخاك وشرفتك بمقعد شادوا بذكرك بعد طول خموله واستنقذوك من الحضيض الأؤهد قال المأمون: لعن الله دعبلا ما ائهته، متى كنث خاملا وأنا ابن ثلاثة خلفاء وأخو خليفة. أفلا ترى المأمون فخر بذلك، مع فضله بنفسه وأنه من أجلاء الخلفاء، فكانت الفضيلة اللمقتدر في الآباء بأصلها للمكتفي بالله إلا أنه لم يكن للمكتفي أخ ولي الخلافة قبله، وقد كان
صفحة ٢٩
ذلك للمقتدر بالله ولذلك مدح إسلحق الموصلي (1) المتوكل على الله فقال في كلمة له طويلة
يا خير من ورث اليرسول ومن به
بسقت فروع خلافة ومغارس
أنت ابن آباء سمت بك منهم
خلفاء أربعة وأنت الخامس [11 ب]
وإذا دعيت إلى الجنان مخلدا
مع رفقة الفردوس فابنك سادس
فكان أعظم ما مدحه عنده. ولادة الخلفاء له، ولأمير المؤمنين الراضي بالله في هذا مر الفخر ما نم يكن لأحد قبله، ولا ساواه خلق فيه، وهو أول خليفة عد من ابائه سبعة خلفاء فقد كمل الله - جل اسمه - له الشرف بالآباء، وبالنفس، وما خحص من العلم، والحفظ.
~~والسماع الكثير للحديث، ولكتب الفقه، والكرم المتعارف بين الناس، ولقد أصاب عبدهآ صفة حين ولد - بلغه اله منتهى الأعمار وغاية الآمال - فقلت في قصيدة أهني والده المقتدر بالل بمولده:
بالرشد والإقبال والجد
والطائر الميمون والسعد
هناك يا خير الورى قادم
أقبل للبيعة والعهد
مبارك الطلعة ميمونها
مومل للحل والعقد
الو بين المنبر عن نفسه
شكا إليه شدة الوجد
وإن سعى الناس إلى غاية
بادر للخاتم والبرد
زارك عن شوق إلى قربه
ازورة معشوقي على وعد
علاه في أقصى محل العلى
ومجده في منتهى المجد
بين الرشيد المرتضى هديه
والسيد المنصور والمهدي
متعك الله بأيامه
حتي تري منه أبا جد
في شعر طويل] ولم يكن مؤنس الخادم حاضرا في وقت ولاية المقتدر بالله الخلافة، وكان قد أخرج إلى ملكة مكرها منفيا، وعزم على أن يكتب إليه مع الخريطة بأن يلحق بمصرا وكأن المكتفي بالله أراد إبعاده، وكره قربه، فاستحضره المقتدر بالله، وأعلى منزلته، وعفل
صفحة ٣٠
شأنه، وفوض إليه الأمور، وخاصة بعد موت صافي الحرمي. فإن صافيا كان يغمز على مؤنس سرا، ويوده رأي العين، ويريه أنه ناصح له في العشورة عليه في البغد عن السطان، وإنما كان لد يه ذلك لئلا يزحمه مؤنس على مرتبته، ولا يشاركه في أمر ولا نهي [12 ب].
~~قال أبو بكر : فلما توفي لصافي» ملك مؤنس الأمر كله، فزاد ونقص، وأثبت، وأسقط، ، كان يفعل في أسفاره كما يفعل الخلفاء يأمر بما يريد في المال من الزيادات والإثبات والنقل التسويغ ثم ينفذ ذلك إلى الدواوين فيمتثل أمزه فيه . ثم كان من بعض أصحابه، ما عاد عليه وباله في عاجله وآجله. وسمعت صافيا الحرمي يقول: لما أمر المقتدر بهدم البناء الذي بناه المكتفى في رحبة باب الطاق، أنفق عليها الأموال العظيمة السنية، قيل لأمير المؤمنين: إن هذه الغلة تساوى أكثر من ألف ألف دينار إن أريد بيعها فقال: انتفاع المسلمين بهدمها، وتوسعتهم بمكانها، آثر عندي وأحب إلي من يمن هذه وغلتها وأسأل الله حسن العوض.
~~قال أبو بكر: وأمر أمير المؤمنين المقتدر بالله في النصارى بنحو مما كان أمر به المتوكل على الله، وظهر من كرمه وطهارته وتفقده [13 آ] أمر بني هاشم وزيادتهم، ورغبته في الدعاء والخير، وكثرة صدقاته، ما كثر به الثناء عليه. وكان نصر الحاجب المعروف بالقشوري يقول الي كثيرا ويسر ذلك لي وإلى من يخصه: لو لم يعرض على أمير المؤمنين المقتدر بالله في الرأي ويصرف عن وجه إرادته، كان الناس معه في عيش رغلد وحال حسنة، ما نقول في خليفة يصلي أكثر ليله، ويصوم تطوعا كثيرا، ولكن الآراء تكثر عليه فيصرف بها عن طبعه، لأيه حدث لم يجالس الرجال ولا جرب الأمور ولا ساس صغيرها فيقيس عليه كبيرها، ولا قرأ السير، ولا عرف الأخبار، وإلا فهو أجمل الناس نية، وأكرمهم طوية، وأكثرهم تقية . وكان نصر القشورى يرمي إلى هذه المعاني ولا يحسن أن يعبرها بلفظة وكان ما علمت حسن الفهم من أشباهه، صحيح العقل، وافر الأمانة، وإن كان أعجمي اللسان، وكان والله مع ذلك جوادا كريما قال أبو بكر: ولقد كان يحدثني أمير المؤمنين الراضي بالله في أيام المقتدر بالله أنه استحضره وإخوته يوما لمجالسته قال: فحضرنا في ثياب المنادمة، إلا أخى هارون فإنه جاء في قباء وسئف ومنطقة، فضحك حين رآه، وأمر أن تخلع عليه ثياب المجالسة، قال: ثم أقبل علي (1) إسحاق الموصلي هو إسحاق بن ابراهيم الأرجاني التميمي بالولاء. أبو محمد فارسي الأصل، شاعر مغر فقال : أنا أحدث السيدة بحديث يشبه هذا وإن كان لا شيء عليك فيه، لأنك علمت ما أردتلة ناقد، وقد ذكر النديم في الفهرست أن ديوانه يقع في خمسين ورقة ولم يصلنا وجمع شعره من معاصري له، فجئت في اللباس الذي يصلح له، والذين أحدث عنهم لم يعلموا ما أريدوا له. ثم أقبل الدكتور ماجد أحمد العزي - بغداد 1970، وتوفي في بغداد سنة 235 ه . انظر ترجمته واخباره في وفياد على السيدة فقال لها: إن أمير المؤمنين الرشيد كان يقدم ابنه عبد الله المأمون وهو أكبر ولده، على محمد الأمين ابن زبيدة أم جعفر وأسمها أمة العزيز بنت جعفر بن المنصور، ولذلك قدمه
صفحة ٣١
على المأمون والمأمون أسن منه لأن محمدا هاشمي الأبوين. وكانت زبيدة تقول للرشيد: في نفسك تفضيل عبد الله [14 آ] على ابني! فيقول لها : فكيف أصنع إذا كانت نفسه تقدمه، وإن أحببت أن أمتحن هذا بين يديك الساعة إمتحنته . قالت : فافعل. فوجه إلى كل واحد منهما: احضر الساعة فإني أريدك لأمر. فأما المأمون فإنه حضر في موكبه وغلمانه وقد لبس سلاحه، فقال له الرشيد : ما هذا الزي؟ قال: أرادني أمير المؤمنين لأمر، ولم أدر ما هو فاستظهرت بهذا وقلت : إن أرادني لوجه نفذت فيه من ساعتي ولم أتمكث، وإن يكن لغير ذلك فما ضرني، أكون مستعدا . وجاء محمد في الثياب التي يحضر في مثلها أبدا غير متفكر في هذا لعلمه بما أريد منه. فقال الرشيد لزبيدة كيف أصنع بابنك وقد قدمته وهذه حاله على عبد الله وقد رأيت ما كان منه، فما كان عندها جواب في ذلك.
~~قال أبو بكر : وهذا خبر مشهور وقد رويناه، فجاء به المقتدر بالله بحسن قريحته، حيث مضى شيء يشبهه في وقته . ولعل أكثر الناس لا يعلم (4( ب] أن مثل هذه الفضائل في المقتدر، وكان هذا الحديث لي من أمير المؤمنين الراضي بالله في سنة ثلاث عشرة وثلثمائة وحدثني عنه أنهم كانوا يوما بين يديه وكان أصغر الولد في ذلك الوقت «الفضل» فأجلسه على سريره معه، وجعل يقبل عينيه فيرشفه في الوقت بعد الوقت . قال : فظن أن ذلك مما أكره فقال : يا محمد! لا تنظر إلى فعلي هذا ب «فضل» فتظن أنه بعشرك عندي ولا أحد من الناس ولكنه صغير ولم تزل الرقة والمرح تنصرفان إلى الأصغر من الولد، وللكبير جلاله ومحله. قال فشكرت ذلك من قوله ودعوت له.
~~قال الصولي: وحدثني الراضي أيضا وقد كان أستأذن في العبور إلى «الزبيدية» وأن يدعو إخوته إليها، فأذن له المقتدر في ذلك وأطلق مالا خطرا للنفقة، ولم يطلق له من أمره بذلك إلا بعضه، وكنت أنا وسائر عبيده الذين يأنس بهم ممن حضر في ذلك اليوم. ووافى إخوته وتخلف [115] منهم «العباس» وكان يوما شهيرا في جلالته، فحدثنى في ذلك الوقت أن أباه المقتدر بالله أنكر عليه تخلف أخيه العباس، وأنه اعتذر إليه لم يبق غاية في سؤاله ذلك، والتأكيد عليه فيه، ولكنه آختار التخلف عنه. فقال له المقتدر بالله: كان يجب أن تمضي إليه أنت بنفسك حتى تنهضه معك ، فإنك كبير هؤلاء ورئيسهم ، ويجب عليك أن تداريهم وتحتملهم وتلطف لهم. فعجبت واله من هذا الفهم التام، والقريحة الحسنة، وإنما جئت ها هنا بطرفي من محاسنه ليعرفها من لعله قد جهلها، إلى أن آتي بما بقي منها في أخباره إن شاء اله.
~~قال أبو بكر : وكان ((1) الحوادث في أيامه : قتل العباس بن الحسن الوزير
صفحة ٣٢
سعى الجماعة في خليه وتولية عبد الله بن المعتز، فسلم الله تبارك وتعالى المقتدر لمعروفه، جميل نيته) وسابق قدر الله تعالى فيه وفي مدته. وكان اليوم الذي قتل فيه (1) العباس قد ركب الى البحيرة، [15 ب] وورد على صافي الحرمي الخبر بعزم القوم، فبادر بالمقتدز بالله فأدخله (2) حتى وافى قصره الحسني فسلما. وبلغ الخبر العباس بن الحسن فلم يكترث به ، وسار على عادته من ناحية الثريا يريد باب عمار وبه داره، فسل الحسين بن حمدان سيفه عند موضع يعرف بمقسم الماء، فضرب به العباس بن الحسن على رأسه فسقط على يده وضربه أخرى، ثم عاد فضربه ثالثة، وذلك في يوم السبت لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين. وضربه أيضا وصيف بن صوراتكين، وضرب غلام لوصيف ابنه أحمد بن العباس ضربة لم تزل في وجهه، فأفلت إلى بستان رمى به خلف حائط ولم يزل أثر الضربة في وجهه إلى أن مات، وجاء «فاتك المعتضدي» كالمنكر لما فعلوه فضربه «خطا مرس» ضربة حلت كتفه، وثناه عبد الغفار فسقط، ونهبت دور العباس وما يليها من دور الناس. وكان قد عزم في ذلك [16 آ] اليوم على أن يشرب إذا رجع ببستانه الذي يسمى بستان الورد وكان الحسين بن حمدان وسائر كبار القواد في دعوته. وأنا أفرغ من أمر العباس وسبب قتله وما تأوله قوم عليه، وبعض ما قيل فيه ، ثم ابتدىء بذكر ابن المعتز إن شاء الله.
~~قال أبو بكر: حدثني الحسين بن حمدان قال: كان أصحابنا قد عزموا على قتل العباس بن الحسن في دجلة إذا انحدر من داره إلى دار الخليفة وهو في طياره، وأجمعوا في طرح الطيارات على طياره كأنهم يريدون السلام عليه، فإذا أطافوا به قتلوه، فطرحوا عليه يومأ لذلك فلم يلحقوا طياره وفاتهم، وظن العباس أن ذلك للسلام عليه كعادتهم وأفلت فعزموا على الظهر بعد ذلك.
~~قال أبو بكر: وكنت قبل مقتل العباس بن الحسن بأيام، واقفا على بابه انتظر الإذن، فانصرف إبراهيم بن كيلغ ولم يؤذن له، فقال : امض بنا يا أبا بكرا فقلت : لى حاجة ولعلى أصل، فقال: هيهات [16 ب] قد خلا الوزير الذي وزارته خلافة بالأمير أبى شجاع فاتك بنظائر لهذا القول وقيل لنا يا كلاب انصرفوا فانصرفنا ولعل الله ( ) (2)، فعرفت الشر من هذا الكلام.
~~قال أبو بكر : وكان سبب قتل العباس أن الناس حسدوه لغلبته على أمر الخلافة وفعله فيها
صفحة ٣٣
ما لا تريد، ولا معارض له في رأي، ولا مشارك له في تدبير، ولا يهاب الخليفة، ولا يفزه منه، وقل ما احتمل الناس هذا لأحد، حتى توقعوا تدبيرا لإزالته، وخاصة أن الذي كان يفعل هذا من غير رضا من الخليفة فإنه لا بد أن ينتدب قوم لإزالته. وكان العباس قد رد أمر الدواويز إلى الكفاة من الكتاب . فجعل ديوان السواد وبعض الأزمة إلى علي بن محمد بن الفرات وجعل ديوان المغرب وبعض الأزمة إلى علي بن عيسى بن داود بن الجراح، وجعل ديواز الجيش وتدبيره إلى محمد بن داود بن الجراح. وجعل (17 ا] باقي الأزمة وأكثر ما بقي مز الأعمال إلى محمد بن عبدون، وكان صافي النية لهم طول أيام المكتفي بالله، منصفا لهم في إذنه ولقائه، فلما علا أمره في أيام المقتدر بالله وملك الخلافة تجبر وتكبر، ومشنى القواد بير يديه فلم يأمرهم بالركوب، واجتنب أن يخاطب صغار الناس وأن يقف في بعض الأوقارة لمتظلم كما كان يفعل، وكانوا شاكرين له محبين لدوام أيامه فلما حال عن عهده جعل ما في أنفسهم من الرعاية والحياطة لأموره يمحص ويذهب فكان كما قال الفرزدق:
تصرم مني ود بكر بن وائل
وما كان مني ؤدهم يتصرام
قوارص تأتيني، وتحتقرونها
وقد يملز القطر الإناء فيفعم
وقد أجابه عن هذا بعض بني عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ويرو أن اسمه جرير بن خرقاء فقال:
القد ته أثك الدار بكر بن وائل
فركث لك الأحشاء إذ أنت مجرم (17 ب
ليالي تمنى أن تكون حمامة
بمكة يغشاها الستار المحر
فإن تنأ عنا لا تضرنا وإن تعد
تجدنا على العهد الذي كنت تعل
قال أبو بكر: وإنما قال: «تمنى أن تكون حمامة1) لأن الفرزدق لما هرب من زياد مكة قال يخاطبه:
فدعني أكن ما دمت حيا حمامة
بمكة يغشاها الستار المحرم
صفحة ٣٤
قال أبو بكر : وحدثني الطالقاني يوما وقد جاءني مسلما علي فقال: إنصرفت من عند أبى عيد الله محمد بن داود بن الجراح إليك وسألته عن قصته مع العباس بن الحسن ، وكيف لمعاملته (1) له في هذه الدولة، وكان هذا في أول ما ولي المقتدر بالله، فقال لي: أجيبك بما قال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
تبحشيم سخطي فخير بحثكم
نخيلة نفس كان نصحا ضميرها
اولن يلبث المكروه نفسا كريمة
إذا حركت أن يستمر مريرها
وما النفس إلا نطفهآ بقرارة
إذا لم تكدر كان صفوا غديرها (3) [18 آ]
قال: فعلمت أنهم قد كرهوه. واجتمع هؤلاء الأربعة ثتاب الدواوين، فكتبوا رقعة إلى العباس بن الحسن يستعطفونه، ويسألونه إجراءهم على عاداتهم في سعة إذنه، وطلاقة وجهه، ودفعوها إلى أبيه الحسن بن أيوب، فأخذها منهم فدفعها إليه، فوعده الجواب عنها. فلما خرج وقع على ظهرها بخطه : أما المحمدان: فشرهان نطفان أبطرتهما النعمة حتى تعديا طورهما في التسمحب، يعني محمد بن داود ومحمد بن عبدون، وأما العليان فإن لأحدهما نعمة يحامي عليها، وأما الآخر فمستشعر كبرا ومنتظر وحيا قد شما الوزارة من لحاهما، وعلي تقويم أود الجماعة وإصلاح فسادهم إن شاء الله.
~~قال أبو بكر : فستر الحسن عنهم ذلك، ودار في أفواه الناس فتحدوا به وكان مما يدعيه الحسين بن حمدان عليه أن سكر يوما عنده، قال فأخذ خاتمى من يدي وأنا لا أعلم وأنفذ إلى جاريتى مع خادم له يقول لها عني: إحضري ليسمع الوزير غناءك . وكنت قد خفت شيئا من هذا، فأكدت القول فيه مع الجارية قبل ذلك، فلم تصغ إلى قول الخادم. وكان الحسين بن حمدان بعد قتله العباسحين قدم بغداد وترك باب الشماسية) يخرج رقاعا يزعم أنها بخط العباس إلى جاريته يحبها (كذا)، عليه، ويعدها بكل شيء خطير نفيس، ويزهدها في الحسين، وأرانا تلك الرقاع. وكان الحسين يحلف مجتهدا أنه ما ارتكب ذلك من العباس حتى سمعه وهو
صفحة ٣٥
يقول، وقد ناوله المرزباني صاحب أحمد بن إسماعيل بن أحمد كتابا من صاحبه آحمد بن إسماعيل يسأله أن لا يقبل «بارس» الهارب من جملة غلمانه الواردين إلى باب السلطان، وأنه يعطيه أمانا ويوليه ناحية ويعلمه أن قبوله لبارس أفسد جميع من معه، وخراب لخراسان وسبب لاضطرابها، والعباس يأبى في كل ذلك، إلى أن قال المرزباني : ومن «بارس» وما يجىء معه، لأحمد ألف غلام مثل «بارس» فلا تستفسد مثله من [19 آ] أوليائك ببارس ، فقال له العباس: وما يجىء من «بارس» اصطنعه فيعلو أمره كما علا أمر الناس، أليس كان محمد - صلى الله على سيدنا واله وسلم - أجيرا لخديجة ثم جاء منه ما رأيت؟ قال: فاعتقدت قتله، وأمسك المرزباني فلم يجبه.
~~قال الصولي: وزعم الحسين بن أحمد بن عبد الصمد بن طومار الهاشمي أنه كان حاضرا لهذا الحديث منه، فسألت أبا أحمد بن عبد الصمد بن طومار عن ذلك فقال: احفظ أنها كلمة أخطأ بها العباس وكان يجب أن يقولها. وحكى المرزباني نحوا مما قاله الحسين بن حمدان .
~~قال الصولي: وما علمت العباس بن الحسن كان إلا جميل الأمر، حسن الدين، كثير الصدقة والمعروف، ولقد كنا نسأله في أبواب المعروف أشياء كثيرة فيأمر بها، وربما جرى بعض ذلك على أيدينا. وكتب علي بن عيسى إلى العباس بن الحسن: إني لا أستحل أن اكتمك ما اتصل بي من عزم القوم اليوم على الفتك بك فبادر فى طريق غير طريقك، فلما [19 ب] قرأ الرقعة قال: جاءنا بضعف قلبه وخوره ، أليس معنا أبو علي الحسين بن حمدان.
~~قال أبو بكر : لما قتل العباس، وتفرقوا عنه، سلبه بعض الأعراب ثيابه، فما ترك إلا في سراويله بغير تكة. وجاء بعض الأكرة فحمله في كساء ودفنه. ولما استكبر العباس بن الحسن وتغيرت أخلاقه قال فيه بعض الشعراء :
يا أبا أحمد لائح
سن بصرفي الدهر ظنا
واحذر الدهر فكم أه
لك أملاكا وأفني
كم رأينا من وزير
صار فى الأجداث رفنا
أين من كنت تراهم
درجوا قرنا فقرنا
فتجنب مركب الكب
-ر وقل للناس حسنا
وتما أمسى بعزلي
من به أصبح يهنا
وقبي ح بمط اع ال
أمر أن لا يتأنى
صفحة ٣٦
اترك الناس وأيا
مك فيهم تتمنى
قال أبو بكر: ودخلت يوما بعد قتل العباس بن الحسن على عبد الله بن حمدون مسلما عليه، ومعي الحسن بن إسماعيل القاضي، فقال لنا ابن حمدون: بلغني أن يحيى بن علي المنجم قال في قتل العباس في موكبه شعرا منه :
الو كان سيفي إذ حضرتك في يدى
سلم الوزير وهابني أعداؤه
والله لو كان سيفه في يده لأهلك الله من بقي فلم يسلم أحد . فقال له الحسن بن اسماعيل: احمدوا الله عز وجل إذ سلمكم! ولم تعرفوا ما تحت قولي، وإنما أردت أن سيف يحيى لم يكن معه. وقيل في العباس:
لو أن ما أنيم فيه يدوم لكم
القلت أن اختلالي دائهآ أبدا
لكن رأيث الليالي غير تاركة
ما ساء من حادثي أو سر مطردا
فقد سكنت إلى آي وآئكم
ستستجد خلاف الحالتين غدا
اضحى وزيركم العباس في عدد
من الجيوش، وأمسى تالفا وحدا [20 ب]
وقال يحيى بن علي وكان في الموكب:
ما إن رأيت ولا أراني رائيا
أبدا كضيعة مصرع العباس
وثب ابن حمدان اللعين بسيفه
يغلوه لا يألوه وسط الراس
أظنت أن الذئب ينسى خلقه
هيهات بل أنت المضيع الناسى
وقال أخر فيه :
أبا عباس صرت إلي النهايهآ
ولكن أنت عند الناس آيهآ
إذا ذكروك قالوا ثم قالوا
ربيب تعهر وصنيع دايه
رأيثك هابطا بعد ارتفاع
وسعي الناس مقرون بغايهآ
قال أبو بكر : تحدث الناس بأن المكتفي بالله لقبه لكرب الدواء»، فقيل فيه لما قتل:
قد أرحنا من بلاة
ومضى كرب الدواء
كان والله على الصح
حة غيظ العقلاء
صفحة ٣٧
وقال يحيى بن على يرثيه : 213 ا]
يا بؤس مغتبط بالدهر يأمنه
بعد الذي قد جرى في أمر عباس
اغدا أجل الورى حالا، وأنبلهم
قدرا، وأعظمهم في أعين الناس
يريد بستانه للشرب فيه علي
حسن النبات وريح الورد والأس
فأحتازه دون ما قد كان قدره
سيف الحسين فأمسى رهن أرماس
سقاهآ من كفه ما كان عدته
كأسا حمته عن (1) الإبريق والكاس
وقال علي بن محمد بن نصر:
إن ابن حمدان بن حمدون
جاء بأمر ليس بالدون
بضربة قرت بها أعين
وفرجت عن كل محزون
فجدل العباس من بينهم
بمرهف الحدين مسنون
وفتكة أودي بها فاتك
فهو صريع غير مدفون
قال الصولى: وعملت فيه أشعار كثيرة تركت ذكرها، فلما قتل العباس وصليت الظهر من يوم السبت، وجه محمد بن داود بن الجراح إلى عبد الله بن المعتز، فأخرجه من داره في اخر (21 ب] الصراة إلى دار إبراهيم بن أحمد الماذرائي التي على دجلة والصراة، ووجه إلى القواد، وأخذ البيعة عليهم، فأجابه أحمد بن محمد بن عمرويه صاحب الشرطة، ويمن غلام المكتفي بالله، ووصيف ابن صوارتكين، وابن كشمرد، ونزار بن محمد، وطاهر بن علي، وعلى ( ) (4) غلام المكتفي بالله والحسين بن حمدان، وابن كيغلغ، والقاسم بن سيما وخطارش، وجني الصفواني، وغيرهم. وصاروا بعبد الله بن المعتز إلى الدار التي للمكتفي بالله على دجلة في ظهر المخرم، ثم صارت لابن الفرات، ووجه إلى محمد بن يوسف القاضي وأحمد بن يعقوب أبي المثنئ في الحضور ومعهما العدول ليشهدوا كما ظنوا على خلع المقتدر
صفحة ٣٨
بالله لنفسه والبيعة لغيره.
~~قال أبو بكر : فلعهدي ذلك الوقت وقد حضرت صلاة المغرب، فضرب بالدبادب من القصر الحسني دار المقتدر بالله، وضرب بدبادب أخر من الدار التي فيها عبد الله بن المعتز وكذلك [22 ا] في صلاة العشاء (1)، وصلاة الغداة من يوم الأحد، وشغل محمد بن داود عن احكام التدبير بالكتب إلى النواحي بخلافة ابن المعتز، واستيزاره إياه، وسمي ابن المعتز المنتصف بالله وهو اللقب الذي اختاره، وجعل الناس يبايعون ابن المعتز، والذي يأخذ البيعة على الناس محمد بن سعيد المعروف بالأزرق، وكان يخلف محمد بن داود على الجيش، وكان الناس يحلفون بحضرة القضاة، وأحضر عبد الله بن علي بن أبي الشوارب قاضى المدينة وطولب بالبيعة لابن المعتز فلجلج قليلا وقال : ما فعل جعفر المقتدر بالله فدفع في صدره، فنفعه ذلك عند المقتدر فولآه قضاء بغداد، وعزل محمد بن يوسف عن القضاء وأباه يوسف بن يعقوب، وقتل أبو المثنى صبرا وهو أول قاض قتل في الإسلام صبرا (2)، لا يعرف ذلك في دولة بنى أمية ولا في دولة بني العباس مثل ما جرى على أبي المثنى.
~~قال أبو بكر : ولم يشك الناس أن الأمر تام [22 ب] لابن المعتز لاجتماع أهل الدولة عليه، وكان أحد من تخلف عنه «سوسن الحاجب» فإنه كان في دار المقتدر بالله، وقد كاتب عبد الله بن المعتز وبايعه على أن يكون حاجبه، فبلغه في ليلة الأحد أن «ايمنا» غلام المكتفي بالله يذهب ويجيء قدام ابن المعتز كالحاجب له، وكان عدوا ليمن يناوعه منذ أيام المكتفي بالله، وكان «سوسن» قد واطأ ابن المعتز على أن يوجه إليه بالمقتدر بالله وبصافي الحرمي، فلما بلغه أمر «يمن» رجع عن عزمه، وشد الأمر، وأحكمه وقوى نفس صافي ومؤنس الخادم ومؤنس الخازن، وأحضر الغلمان الذين في الدار، ووعدهم الزيادة، وأصبح عبد الله بن المعتز في يوم الأحد والناس كلهم عنده ومعه قد أعد للدار من الماء ومن جهة الحلبة وسائر الظهر الحسين بن حمدان وأمر ابن المعتز أن يجلس الجند في الحراقات والطيارات، وأن يصاعد بها إليه فلم يقبل منه. ووجه محمد بن داود إلى صاحب [23 )] الكسوة أن يوجه بخلع يلبسها أمير المؤمنين المنتصف بالله والبردة فرد إليه الرسول بأن المقتدر بالله قد لبسها. وصلى ابن المعتز بالناس الغداة في يوم الأحد، ثم التفت إلى القضاة والعدول فقال : قد آن للحق أن يتضح، وللباطل أن يفتضح.
صفحة ٣٩
~~وقال محمد بن خلف المعروف بوكيع (21 بين يديه فقرظه وقال: أمير المؤمنين، والله كما قال أبو العتاهية (2) لجده المنصور .
~~أتشه الخلافة منقادة اليه تجرو أذيالها فلم تك تصلح إلآ له ولم يك يصلح إلآ لها ولو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض زلزالها ولو لم تطعه بنات القل و ب لما قبل الله أعمالها فرد عليه جميلا وقال : أسأل الله عونا وتوفيقا.
~~قال أبو بكر : ووجه عبد الله بن المعتز إلى الجلساء أن يحضروا، فما حضر منهم غير الحسن بن إسماعيل القاضي، فإنه حضر فلما أحس بالخلاف [23 ب] بادر قبل الناس فخرج وجاءني رسول قاصد فقيل له : قد بادر وذهب. وجاءني رسول أبي العباس بن طومار يشير علي ألآ أبرح. وكتب إلي متوج بن محمود وكان في الجلساء يشاورني في ركوبه، فكتبت إليه الصواب ما قال ابن هرمة’’: أقيمي يا عدي ولا تسوقي وإن تاق الغواة فلا تتوقي وكل ما أحكيه من أمر ابن المعتز فالحسن بن إبراهيم حدثني بأكثره، ورجل من الجند محصل يعرف بمحمد بن داود بن رقبة. ثم قال عبد الله بن المعتز ما جلوسنا؟ نركب إلى الدار، فقال له محمد بن داود: ننتظر قليلا إلى أن ينفض الطريق من عامة تفرقت فيه. فقال عبد الله بن المعتز: هواهم معنا أو علينا؟ فقال: ليسوا معنا، فقال ابن المعتز مجيبا له : «ليس
صفحة ٤٠