من ثم، يشترك جزء كبير من الفكر النسوي مع ما بعد الحداثة في الهجوم على الخطاب الأكبر المشرع الذي يستخدمه الذكور - والمعد كي يبقيهم في السلطة - بينما يسعى إلى تحقيق نوع من التمكين الفردي لمواجهة هذا الخطاب. لكني أتفق مع نقاد هذا الموقف - من أمثال شيلا بن حبيب - في ضرورة عدم النظر إلى المرأة التي تسعى خلف هذا التمكين الفردي باعتبارها تحتل «موضعا آخر في اللغة ليس إلا»؛ إذ إن رؤية ما بعد الحداثة حول هذه الذات «التي يؤسسها المجتمع» تتجاهل طريقة تكون الذات من خلال احتفاظ الفرد بادعاء أصلي ومتفرد غالبا حول ذاته أو ذاتها، وهو مصدر الإبداع لديه. إن هذا الدليل على نمو الفرد عبر التفاعل الاجتماعي يتجاهله منظرو الذات من أتباع منهج «التأسيس الاجتماعي». بالطبع، يمكننا تمييز القواعد المتعارف عليها وصور الامتثال إلى أنواع الخطاب التي أسسها المجتمع في السيرة الذاتية لأي فرد كان، لكن فيما يتعلق بسيرتنا الذاتية، نصبح نحن (مثل رولان بارت) المؤلف والشخصية في آن واحد. وبهذه الطريقة - رغم كوننا نتاج أنظمة خاضعة لعوامل خارجية - ما زال في وسعنا السعي خلف استقلال تحرري تقليدي. تحتاج النساء إلى هذا الإحساس بالاستقلالية تحديدا، على حد قول شيلا بن حبيب، التي تستنتج أن المواقف البنائية القوية المستقاة من فكر دريدا وفوكو ستؤدي في الواقع إلى «تقويض ... التعبير النظري عن مطامح النساء التحررية.» فعبر تقويض إحساس النساء بقوتهن الذاتية وبفرديتهن، ينكر أولئك المنظرون أي محاولة تبذلها النساء لإعادة تملك تاريخهن بالإضافة إلى إمكانية طرح نقد اجتماعي جذري. وعلاوة على ذلك، يطرح نفور اتجاهات ما بعد الحداثة من الالتزام بأي موقف فلسفي مثبت (وهو الذي سيخضع بعد ذلك للتفكيك على يد أحد أتباع دريدا البارعين) مشكلة جدية لدى النساء؛ ومن ثم، ربما يكون من الأفضل بالفعل لهن اتباع خطة عقلانية (تنويرية) تقوم على المساواة وتهدف إلى التحرر التدريجي، خلافا للمسار ما بعد الحداثي الذي غالبا ما ينتهي إلى نزعة انفصالية متطرفة. فعلى الرغم من أن نقاشات ما بعد الحداثة قد ساعدت الكثير على «تحديد» جذور اختلافهم عن الأغلبية - أو عن «من في السلطة» - فإن التحرك السياسي الفعال يتطلب ما هو أكثر من هذا التصور شبه الأولي عن هوية منشقة.
يتفق الليبراليون مع أتباع ما بعد الحداثة في إدراك الحاجة إلى القدرة على طرح تساؤلات حول «حدود» أدوارنا الاجتماعية وحول شرعية وهيمنة الأطر التصورية التي تقتضيها ضمنا، وقد حقق الاتجاه التفكيكي ما بعد الحداثي نجاحا استثنائيا في مقاومة الأيديولوجيات التقييدية باتباع هذا النهج. غالبا ما يحاول أتباع ما بعد الحداثة زعزعة الحدود التصورية لأفكارنا حول النوع الاجتماعي، والعرق، والميول الجنسية، والانتماء العرقي عبر إطار تفكيكي ومتجاوز، ويطرحون مطلبا تحرريا في جوهره يدعو إلى الاعتراف بالاختلاف وقبول «الآخر» داخل المجتمع. وفي ذلك العالم التعددي (متعدد الخطابات) لا يتوقع أن يحظى إطار ما بالقبول؛ فأينما يسود الاعتقاد باستحالة تحقيق الهيمنة المعرفية، تصبح المنافسة بين تلك الأطر التصورية قضية سياسية، وجزءا من التنافس على السلطة.
إذن فإن صورة «ذات ما بعد الحداثة» تختلف للغاية عن صورة الذات التي تقع في قلب الفكر الإنساني الليبرالي، والتي من المفترض كونها قادرة على التمتع بالاستقلالية والعقلانية والتمركز، وعلى التحرر بطريقة أو بأخرى من أي خصائص تتعلق بالنوع الاجتماعي أو العرق أو الثقافة. لقد ابتعد التحليل ما بعد الحداثي عن تلك الافتراضات الكانطية المتفائلة والقابلة للتطبيق الشامل كي ينظر إلى الذات بوصفها نتاجا لأنظمة اللغة، التي نتخبط جميعا - بدرجة أو بأخرى - في قبضتها، رغم أنها قد تهيمن بوضوح أشد على البروليتاريا والإناث والسود والخاضعين للاستعمار. إن التحول العام من التركيز الليبرالي على حرية إرادة الذات إلى التركيز - المستوحى من الفكر الماركسي - على حرية إرادة الآخر؛ ينطوي على أهمية فائقة؛ فهو تحد صارخ لآراء الفلسفة الأنجلو أمريكية ما بعد التنويرية الراسخة، يلفت النظر إلى اختلافات الهوية المتعذر تجاوزها بين الأفراد. وقد أدى ذلك - حسب الوصف المثير للجدل باعتراف الجميع في كتاب «ثقافة التذمر» لروبرت هيوز - إلى إنتاج ثقافة تشجع الكثير من الناس على اعتبار أنفسهم «ضحايا». وسنتناول هذه الثقافة تناولا أكثر تفصيلا في الجزء التالي.
ونتيجة لذلك، فعلى الرغم من أننا قد نعتبر الكثير من فكر وكتابات وفنون ما بعد الحداثة المرئية يطرح هجوما على التصنيفات النمطية ويدافع عن الاختلاف إلى آخره، فإنه ترك كل تلك المجموعات المنفصلة تطالب بالاعتراف بها ك «مجموعات حقيقية» لكن منعزلة، إثر تحررها - النظري أو عبر النظرية - من التصنيفات المهيمنة لدى الأغلبية. وقد جمع المستفيدون من هذا التحليل بين النزعة الانفصالية (إذ انعزلوا عن المعتقد التقليدي وأبدوا استياءهم منه) والنزعة المجتمعية (إذ توحدوا مع الآخرين الذين تعرفوا كذلك على هويتهم المنشقة). مع ذلك، كيف تستطيع تلك المجموعات المختلفة التعريف - الناتجة عن التحرر من التصنيفات - التواصل مع أي مركز سياسي قائم بالفعل؟ من الصعب تحقيق ذلك بالنظر إلى العدائية الدائمة شبه الفوضوية التي يبديها الكثير من أتباع ما بعد الحداثة حيال أي نظرية شاملة أو تصور متكامل للمجتمع.
تنطوي النتيجة على مفارقة، فالنظرة التشككية اليسارية حيال السلطة (التي تحمل طابع ليوتار) أتاحت الاعتراف بالاختلاف، في حين أن أكثر الناس دعما لترك المجموعات ذات التعريفات المختلفة في حالة انعزال - لتتنافس وتتصارع فيما بينها - هم أصحاب الفكر اليميني، المؤمنون بالحرية الفردية في ظل الحد الأدنى من سيطرة الدولة. وهكذا، فإن إحدى المشكلات التي تورط فيها الفكر الانتقادي ما بعد الحداثي حالما فرغ من عرض رؤيته النقدية تتعلق بتحديد نوع المجتمع المرغوب فيه، وذلك بمعزل عن الادعاءات الكبرى وعن الارتداد إلى أفكار تنويرية كانطية أو «تبسيطية». إن معتنقي الفكر الماركسي المثالي لن يهمهم كثيرا حقيقة غياب ذلك النموذج المقترح للمجتمع حاليا، لكن الأمر مهم قطعا بالنسبة إلى المفكرين ذوي الأهداف الدنيوية قصيرة المدى؛ ومن ثم، نجد أن الفكر ما بعد الحداثي قد حافظ على طابعه المعارض ، لكن ذلك كلفه كثيرا جدا في أغلب الأحيان. فحالما ترسخت كل تلك الاختلافات والهويات المتباينة أصبحت من ثم منعزلة عن أي أيديولوجية مركزية متسقة. وهكذا يبدو أن أتباع ما بعد الحداثة يدعون إلى «تعددية» لا يمكن اختزالها، منعزلة عن أي أطر اعتقادية موحدة قد تؤدي إلى نشاط سياسي مشترك، وهم دائمو التشكك في محاولة الآخرين فرض هيمنتهم. بذلك، تمكن أتباع ما بعد الحداثة من الانقلاب على المثل التنويرية التي تشكل أساس الأنظمة القانونية لدى معظم المجتمعات الديمقراطية الغربية، والتي هدفت إلى تقديم نماذج للمساوة والعدالة «قابلة للتطبيق عالميا». بالتأكيد، يميل أتباع ما بعد الحداثة إلى الزعم بأن العقل التنويري - الذي ادعى قدرته على بسط مثله الأخلاقية مثل الحرية والمساواة والأخوة لتشمل الجميع - هو «في الحقيقة» نظام يفرض سيطرة قمعية من النوع الذي وصفه فوكو، وأن العقل في حد ذاته - لا سيما حال تحالفه مع العلم والتكنولوجيا - يتسم بطابع استبدادي أولي.
يمكننا إلى حد ما فهم هذا الهجوم الذي يشنه أتباع ما بعد الحداثة على العقلانية، بقدر ما عبر عن الشك الذي طرحه عالم الاجتماع ماكس فايبر حيال العقلانية النفعية في المجتمعات الاستهلاكية التكنوقراطية وفي منهج «التحديث الرأسمالي». لكن شكوكية ما بعد الحداثة كانت موجهة كذلك إلى وسائل التواصل العقلاني في حد ذاتها؛ إذ أشار يورجين هابرماس - أحد أبلغ النقاد اليساريين - وغيره من النقاد إلى أن تبني الاتجاه ما بعد الحداثي والتخلي عن نموذج العقلانية الصريحة أو التوافقية - الذي يعتبره هابرماس العلاج الأمثل للاستغلال السياسي للسلطة - أمر غاية في الخطورة بالفعل؛ إذ يعتقد أن علينا السعي نحو «وضع الحوار المثالي»، وهو منهج تواصل لا تشوبه بقدر الإمكان تأثيرات السلطة - التي وضحها فوكو - ويتسم بالتوافق وبطابع من التضامن الاجتماعي الذي يبدي أتباع ما بعد الحداثة ارتيابا كبيرا نحوه.
يرى الكثيرون الموقف ما بعد الحداثي موقفا تعجيزيا، فمعتنقوه ليسوا سوى مجموعة من المؤمنين بالتعددية المعرفية لا يجمعهم موقف عام راسخ، وهكذا على الرغم من مدى ثوريتهم كنقاد، فإنهم لا يطرحون وجهة نظر خارجية ثابتة؛ ومن ثم ينحصر دورهم فعليا في إطار محافظ سلبي فيما يتعلق بالسياسات الجارية في الحياة الواقعية.
الفصل الرابع
ثقافة ما بعد الحداثة
تتسم العلاقة بين المناخ الفكري الموضح في الفصول السابقة وبين الإبداع الفني بالتعقيد. فكما هو متوقع، انجذب كثير ممن اعتبروا أعمالهم الفنية مبتكرة أو طليعية - لكن ليس جميعهم - إلى التحدي النقدي الجديد الذي تطرحه الموضوعات الرئيسية في الفكر ما بعد الحداثي. لكن علينا أن نضع نصب أعيننا أن المبدعين قد لا يحتاجون إلى فهم أكاديمي أو فلسفي عميق لتلك الموضوعات. وفي وسعهم كذلك استقاء «أفكارهم الجديدة» من الحوار والكتابات الصحفية التي غالبا ما تعرض تلك القضايا، والتي أحيانا ما يسيئون فهمها أو يستوعبونها على نحو ناقص أو مبالغ فيه. لكن تلك هي الطريقة التي تنتشر بها الأفكار المهمة - مثل الفيروسات - في المجتمع.
صفحة غير معروفة