يرى رولان بارت أن العمل الفني ما بعد الحداثي النموذجي يدرك تلك الاستراتيجيات والقيود المراوغة على الهوية والخطاب الإنساني؛ وذلك على وجه التحديد لأن هذا التلاعب والانقسام يسفر عن نتائج أخلاقية مرغوبة؛ فهو يتخلص خصوصا من ذلك المفهوم الكانطي حول وحدة الفرد الذي يمهد السبيل لتشكيل النظام الاجتماعي والتزمت الأخلاقي:
إن متعة النص لا تفضل أيديولوجية بعينها على أخرى. «مع ذلك» لا ينبع انعدام الارتباط هذا من ليبرالية بل من تحريف: فالنص منفصل عن قراءته. أما المهزوم والمنقسم فهي الوحدة الأخلاقية التي يتطلبها المجتمع من كل نتاج بشري.
رولان بارت، «متعة النص»، (1975)
يضرب بارت مثالا على مذهبه الغامض في أعمال «السيرة الذاتية» التي كتبها، لا سيما في تصوره المبتكر لذاته في كتابه «خطاب العاشق» (1977)؛ حيث يبرع النص في استخدام القواعد النحوية الفرنسية للحفاظ على غموض ميول البطل الجنسية (على غرار لغة شعر أودين العاطفي). كذلك تبدأ السيرة الذاتية «رولان بارت بقلم رولان بارت» (1975) بالعبارة القصيرة التالية: «لا بد من اعتبار هذا الكتاب كله كلاما على لسان شخصية في رواية.» وهكذا يضم الكتاب راويين، نستنتج أن الأول هو بارت (أو المؤلف)، أما الثاني فهو بارت بصفته شخصية روائية. كما قدم بارت مراجعة نقدية لكتابه، متقمصا في هذه الحالة شخصية الناقد.
إن تلك المناهج التفكيكية للوحدة الأخلاقية لدى الفرد التابع، والرغبة (التحررية الكلاسيكية) في مساعدة الذات على الهرب من بعض الحدود الأيديولوجية القمعية، التي تواجهها أو إعادة رسمها؛ هما مفهومان مختلفان تماما؛ فرغبتنا في الهرب من تلك الحدود (مثل تلك التي تمنح الأفراد هويتهم الجنسية)، أو إعادة رسمها، ترجع «بالفعل» إلى مفهوم الاستقلال أو الوحدة أو التكامل الأخلاقي الجديد الذي نستطيع تحقيقه بمجرد أن نتخلص من هذه الحدود التقييدية. يتضح هذا، على سبيل المثال، عند تشجيعنا على إدراك الهويات المختلفة والكاملة في الوقت ذاته للمثليين ومحبي الجنس الآخر (أو هويات الذكر والأنثى) من خلال رفض السقوط في الشرك الأيديولوجي الذي حلله دريدا، والذي كان يدفعنا إلى اعتبار إحدى تلك الهويات نسخة أدنى منزلة من الأخرى. إن ما تساعدنا نظرية ما بعد الحداثة على رؤيته هو أننا جميعا نخضع للتشكيل في ظل نطاق عريض من أوضاع التبعية، التي نتحرك عبرها بسهولة نسبية، وهكذا نصبح جميعا مزيجا من المواقف المتعلقة بالجنسانية والجنس والجيل والإقليم والعرق والطبقة.
يطرح الكثير من أتباع ما بعد الحداثة هذا التحليل المتشائم نسبيا على أمل تحررينا منه. وحالما أصبحنا واعين بالآثار الرهيبة التي تفرضها الخطابات المتناقضة علينا، فمن المتوقع أن نتمكن من إيجاد وسيلة ما للهرب منها.
سياسة الاختلاف
ربما لم يقدم أتباع ما بعد الحداثة وصفا مقنعا حقا لطبيعة الذات يماثل ما قد نجده في فلسفة أخلاقية مهتمة بالمسئولية، لكنهم يتبنون بنجاح ساحق نقاشات تحمل طابع فوكو كي يبرزوا كيف تستخدم خطابات السلطة في جميع المجتمعات بهدف «تهميش المجموعات التابعة»؛ إذ لا تكتفي تلك الخطابات السلطوية بالمساهمة في تفكيك الذات وإبعادها عن المركز، بل تعين كذلك على تهميش أولئك الأفراد غير المشاركين فيها. من جديد، نجد العديد من تلك الشخصيات المهمشة الغريبة الأطوار في الأدب ما بعد الحداثي، مثل كولهاوس واكر في رواية دوكتورو «راجتايم»، وفيفرز في رواية أنجيلا كارتر «ليالي في السيرك»، وسليم سيناي في رواية رشدي «أطفال بعد منتصف الليل». لا يتمتع سليم بأي أهمية اجتماعية كبيرة، رغم ذلك تعرض الرواية أزمة الهوية التي يعاني منها، «بالإضافة إلى علاقته التخاطرية السحرية مع أولئك الذين ولدوا أيضا مع لحظة استقلال الهند»، عرضا مجازيا بحيث يسير بالتوازي مع أزمة الأمة بأسرها. يخبرنا سليم فعليا بذلك قائلا: «لقد ارتبطت بالتاريخ ارتباطا حرفيا ومجازيا فعالا وسلبيا على حد سواء.» لكن الرواية تفكك تاريخ الهند السياسي كي توضح أن في مقدورنا النظر إلى ما هو هامشي على أنه مركزي، وبالطبع تتشتت شخصية سيناي (مثل القارئ الذي يتابع نصه) بين مجموعة متنوعة من الادعاءات المتجزأة المحيطة. لا تحاول الرواية عقلنة المنطق العاطفي الذي يحكم حياة الفرد (كما هي عادة الأدب الواقعي)، لكنها تستخدم أساليبها الواقعية السحرية لعرض الذات باعتبارها نتاج صراعات الحدث التاريخي وتناقضاته، حتى تصل إلى نقطة المبالغة العبثية، كالحال عندما يعلق سليم قائلا: «موت نهرو ... كذلك كان خطئي!» أما وجه سليم، فهو «خريطة الهند بأكملها»، لكنه يتحول مع نهاية الرواية إلى مجرد «قزم ضخم الرأس غير متوازن». (تدين الرواية بالكثير إلى رواية جونتر جراس «الطبلة الصفيح».)
ساعد الفكر ما بعد الحداثي - من خلال مهاجمة فكرة المركز النظري أو الأيديولوجية المهيمنة - في تدعيم سياسة الاختلاف؛ ففي ظل حالة ما بعد الحداثة، تراجعت السياسات الطبقية المنظمة المفضلة لدى الاشتراكيين أمام «سياسات هوية» أكثر تعددية وأكثر انتشارا بمراحل، وغالبا ما تتضمن التأكيد - النابع من وعي ذاتي - على الهوية المهمشة في مواجهة الخطاب السائد.
أحد الأمثلة - التي احتلت بلا شك موضعا مركزيا في سياسات الفترة منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين - على ذلك هو العلاقة بين ما بعد الحداثة والحركة النسوية. يتمحور النقاش هنا حول كون النساء مستبعدات من النظام الأبوي الرمزي أو من الخطاب الذكوري السائد ، وأنهن بالتأكيد يعتبرن أدنى منزلة أو «يستبعدن كآخرين». فهن خاضعات ل «هرمية زائفة» حسب مفهوم دريدا من خلال نسب قيم ضعيفة إليهن في مقابل القيم القوية الممنوحة للذكور. وقد شهدنا جزءا من هذا النقاش في الجدل الدائر حول الحيوان المنوي والبويضة.
صفحة غير معروفة