وانطلاقا من هذه النقطة - حسب رؤية ما بعد الحداثة - من المتوقع أن تلقى بعض خصائص التاريخ الأخرى مصيرا مماثلا؛ فبالتأكيد إذا كانت احتمالية وجود تاريخ واقعي في حد ذاتها احتمالية مرفوضة، وإذا كانت الحقائق ستعتبر على الدوام مجرد أمور تربطها علاقة نسبية مع المسلمات النظرية التي تشكلها والتفسيرات التي تطرح بناء عليها، وإذا كانت الأدلة سينظر لها دوما في إطار علاقتها بعملية بناء السياق المناسب لها، فحتى التناول الشديد الجدية للأدلة التاريخية أو «المصادر الأولية» الذي يبدو بعيدا عن السرد سيحمل حتما مسلمات سردية؛ ومن ثم، سيتخذ التاريخ في الأساس شكلا أسطوريا يكشف عن ذاته متجليا في الأدب ويقدم البنية المفاهيمية الأساسية للتاريخ. وإذا سلمنا بأن استخدام تلك البنى التأويلية الأساسية أمرا حتميا، فإن نسبية ما بعد الحداثة تصبح هي القاعدة؛ إذ من الواضح أن تلك البنى المتبارية المستقاة من الأسطورة ينافس بعضها بعضا. وإذا أنكرنا وجود طريق مباشر لمعرفة الماضي، فإننا لا نملك سوى قصص متنافسة، أضفى عليها المؤرخون ترابطا منطقيا بطرق مختلفة؛ ومن ثم يصير الماضي ليس أكثر مما يحاول المؤرخون - الذين نعتمد عليهم لأسباب ثقافية متنوعة - زعمه. وعلاوة على ذلك - وفقا للكثير من أتباع ما بعد الحداثة - فإن البنى السردية التي يفضلها المؤرخون ستحمل حتما تضمينات أيديولوجية أو فلسفية قد تثير استهجانا؛ كأن تعكس مثلا اعتقادا برجوازيا مستحدثا للغاية بأهمية العامل البشري المستقل عوضا عن النظم الاقتصادية الكامنة، كما يتضح في الأمثلة التي استشهدنا بها سابقا.
لكن ماذا إذن عن تمييزنا لما هو حقيقي، وموثوق به، وتحتمل صحته عندما نقرأ التاريخ؟ حتى أتباع الفلسفة التجديدية المنتمين انتماء واعيا إلى الفكر ما بعد الحداثي يحاولون مساعدتنا في تشكيل معتقدات «أفضل» حيال ما يظنون أنه حدث بالفعل. ويوجد بالفعل ما قد نطلق عليه بوجه عام سردا يقدم وصفا ملائما، كذلك من الممكن تحقيق قدر كبير من التوافق بين اللغة والواقع؛ فلا أحد تقريبا يؤيد طمس ما يسلم بكونه دليلا، وفي الواقع، ليس للمؤرخين مطلق الحرية في اختلاق الأشياء، وهو ما أثبته الجدل المثار حول «منكري الهولوكوست». ولكن، لا يتمتع الروائيون الواقعيون بدورهم عندئذ بحرية كبيرة في اختلاق الحوادث، فلا بد لهم من معرفة الكثير مما يعرفه المؤرخ، وأكثر من ذلك. إن نسبية ما بعد الحداثة لا تعني بالضرورة أن «كل شيء مسموح به»، أو أن الأدب والروايات المبنية على أشخاص وأحداث تاريخية لا تختلف عن التاريخ. لكن ما تقصده حقا هو تنبيهنا إلى أن نراعي قدرا أكبر من الوعي المتشكك ونتخذ موقفا أكثر نسبية - وأكثر يقظة - تجاه الافتراضات النظرية التي تدعم الادعاءات التي يطرحها جميع المؤرخين، سواء كانوا يعتبرون أنفسهم تجريبيين أم تفكيكيين أم «تاريخيين جدد ينتمون إلى ما بعد الحداثة».
ينطبق ذلك بالقدر نفسه على مؤرخي ما بعد الحداثة مثلما ينطبق على المؤرخين التقليديين؛ على سبيل المثال (كما ورد في كتاب ريتشارد إيفانز «دفاع عن التاريخ»، انظر مراجع الكتاب)، عندما هاجمت ديان بوركيس وصف كيث توماس للساحرات باعتبارهن في أغلب الأحيان نساء متسولات لا حول لهن ولا قوة، زعمت أنه يكرر ببساطة «أسطورة تمكين»؛ حيث «تستند هوية الرجال التاريخية إلى انعدام حيلة النساء وصمتهن.» رد ريتشارد إيفانز - داعما توماس - عليها زاعما أن «النساء الفقيرات العجزة غير المتزوجات اتهمن غالبا بممارسة السحر؛ لأنهن - على العكس تماما من التزام الصمت - كن يلعن أولئك الرجال الذين رفضوا إعطاءهن الصدقات.» يبدو هنا وكأن مزاعم توماس التجريبية تصادمت ببساطة مع قاعدة السرد التاريخي المحورية المنافسة التي تتبناها بوركيس، والتي تقضي بوجوب استخدام السرد التاريخي من أجل دعم المفاهيم الحديثة حول تمكين المرأة.
إن تطابقا دقيقا بين السرد وبين «الماضي» أمر مستحيل؛ إذ يمكننا وصف «نفس» الحدث بطرق كثيرة ومختلفة، فضلا عن أن مدخلنا إلى الأدلة دائما ما يكون عبر وسيط، ولا يوجد شيء واضح ببساطة؛ فلطالما وجدت أجزاء مفقودة وفجوات وتحيزات ينبغي التعامل معها. مع ذلك، ما زال بإمكان الادعاءات التوافق مع الأدلة «المفسرة»، وما زال في وسع الأدلة الجديدة إسقاط تلك الادعاءات. وعلاوة على ذلك، لا تلائم جميع أشكال السرد الأدبي الأحداث والحقب التاريخية بنفس الدرجة؛ فكما يوضح مانزلو، لن تحظى انتفاضة جيتو وارسو التي وقعت عام 1944 بسرد ملائم - ومن ثم بتفسير جيد - إذا اعتبرت رواية غرامية أو مسرحية هزلية أو تراجيدية. إن أفضل ما نستطيع تحقيقه هو النقاش حول طبيعة الأحداث السابقة ومعناها، ويزعم ما بعد الحداثيين (وآخرون كثر) أنه ينبغي إبقاء هذا النقاش صريحا ودقيقا قدر الإمكان؛ فالعاقبة المترتبة على عدم مراعاة الانتباه هي احتمال ظهور «رواية رسمية» تتحول إلى الرواية الحقيقية والنهائية حول الماضي في أعيننا؛ ومن ثم، قد تتمكن كذلك من تكوين جزء من «أيديولوجية مهيمنة» غير عادلة - نظرا لتشوهها الواضح - داخل المجتمع المتلقي لها، كما حدث على ما يبدو لكل من الطرفين الأمريكي والسوفييتي أثناء فترة الحرب الباردة. في هذا الإطار، لا يختلف المؤرخون التفكيكيون عن بقية المؤرخين إلا في الميل إلى إبداء القلق علنا حيال صعوبات وظيفتهم، أثناء الكتابة.
الهجوم على العلم
عبر أتباع ما بعد الحداثة عن أشد مواقفهم السياسية تطرفا (وأكثر الإشكاليات المرتبطة بهم وضوحا) عندما هاجموا مزاعم العلم الموضوعية؛ فمن الواضح أن العلماء يعتبرون أنفسهم مشاركين في وضع نظرية موحدة أو «حكاية كبرى» حول الموضوع الذي يدرسونه، ويعتقدون أنهم يحاولون إكمال صورة تصف ما يحدث حقا «في الواقع» (رغم أن هذه الصيغة تعتمد أيضا على نموذج مجازي مضلل على نحو واضح). فهل يمكننا التقاط «صورة» لثقب أسود أو المسافة النونية الرباعية الأبعاد؟
وهكذا أصبحت مزاعم العلم موضع شك. لكن من يقدر الآن حقا على إنكار «الادعاء الكبير» للتطور، باستثناء من يرزحون تحت سيطرة ادعاء رئيسي أقل معقولية بمراحل مثل نظرية الخلق؟ ومن يرغب في إنكار صحة مبادئ الفيزياء الأساسية؟ الإجابة هي «عدد من أتباع ما بعد الحداثة»، بناء على أسباب سياسية من بينها أن منطق التفكير العلمي الهرمي بطبيعته منطق خاضع مرفوض. فلننظر - على سبيل المثال - إلى الادعاء (العبثي) الذي طرحه برونو لاتور حول كون نظرية النسبية لأينشتاين «إسهاما في علم اجتماع التفويض» بما أنها تتضمن تخيل كاتب البحث العلمي - أي أينشتاين - أنه أرسل مراقبين لتسجيل قياسات موقوتة للأحداث، التي تعرضها النظرية بعد ذلك باعتبارها ترتبط فيما بينها بعلاقة نسبية؛ إذ يرى لاتور على ما يبدو أن في وسع المفاهيم الاجتماعية شرح القواعد العلمية الأساسية.
إن العلماء - حسبما يعتقد معظمنا - هم العالمون حقا بحقيقة الأشياء؛ فهم من يكشفون طبيعة الطبيعة، ومعرفتهم بالقوانين السببية تمكننا من التوصل إلى اختراعات تحدث فارقا، مثل الرقاقات الإلكترونية الفائقة الصغر، فضلا عن أن قواعدهم المعيارية فيما يتعلق بالأدلة والتدقيق والإجماع العام - التي تتحكم في النهاية في النماذج أو الأطر المفاهيمية التي يستعينون بها في عملهم - هي (أو ينبغي أن تكون) أفضل ما نعرفه (أفضل بكثير - على سبيل المثال - من تلك المعايير السائدة بين علماء الاقتصاد). تلك باختصار هي معايير الحصول على جائزة نوبل.
لكن من أتباع ما بعد الحداثة لا يعجبهم هذا المشهد؛ فقد هاجموا المزاعم الرئيسية التي يطرحها العلماء عادة حول: (1)
قدرتهم على تقديم وصف وتحليل موضوعي وصادق - ومن ثم صالح للتطبيق الشامل - للواقع الفيزيائي المحيط بنا. (2)
صفحة غير معروفة