كما يتوقف الأستاذ طه بتلاميذه عند الصفحات المثيرة التي يدور فيها الحوار بين الملك كريون وولده هيمون، يقول فيها الفتى لوالده: إنه لا طاعة للحاكم إن هو حاد عن حكم العدل والرحمة، ولا طاعة للأب على ولده «الذي يحبه بل يتفانى في حبه» إذا ترك الأب طريق العدل إلى طريق الاستبداد. •••
وفي أول سبتمبر 1920 يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق - الذي أصبح أستاذا للفلسفة في الجامعة - لطه حسين: إن الأخبار الواردة من لندن تفيد أن المباحثات قد انتهت إلى مذكرة بقواعد اتفاق بين مصر وبريطانيا، وأن الوفد المصري رأى «أخذا بالأحوط واستمساكا بنص الوكالة على إطلاقه ألا يبت في الموضوع برفضه أو بقبوله ... حتى يعرض الأمر على البلاد ...» ولذلك فإنهم قد بعثوا أربعة منهم إلى مصر للتشاور، وطه حسين سعيد بهذا الخبر كل السعادة لما فيه من دلالة، أولا: على أن الإنجليز قدموا عرضا يقبل المناقشة، وثانيا: لما فيه من دلالة على أن سعد باشا والزعماء المصريين حريصون على مبدأ التشاور وعلى الرجوع دائما إلى الأمة.
وهناك خبر آخر مفرح، وهو أن طلعت حرب باشا شارع في إنشاء بنك لمصر، وهو حريص على أن يجمع ثمن الأسهم كلها من المصريين من جميع الطبقات بمن في ذلك الأساتذة وطلاب الجامعة، بل إن بنك مصر قد باع سهما لأخيه عبد المجيد، أي أن البنك يجمع قيمة الأسهم حتى من تلاميذ المدارس لإشعارهم بأهمية إنشاء هذا البنك المصري بأيدي المصريين. طه حسين يقول إن الاستقلال، على أهميته وخطره، هو عمل سلبي ينحسر به سلطان الأجنبي عنا، ولكن العمل الإيجابي هو الذي يبني البلاد، إن البلاد إنما تبنى بالعلم والعمل في كل ميدان.
وخبر آخر يدل على امتداد اليقظة إلى كل أفراد شعب مصر: إن السيدة هدى شعراوي وعضوات الاتحاد النسائي المصري الذي ترأسه غاضبات لأن الوفد المصري لم يطلب رأيهن في مشروع المعاهدة المعروض من الإنجليز، وهن مع ذلك يدرسن المشروع ويبرزن فيه عيوبا يحددنها ويقررن إعلانها.
7
وتطلب مجلة الهلال إلى طه حسين أن ينشر فيها فصولا عن «قادة الفكر»، فيوافق مسرورا لأنه يريد دائما أن يشرك عامة القراء في دراساته وبحوثه كلما استطاع، وهو سيحدث قراء الهلال إذن عن سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس والإسكندر ويوليوس قيصر، ولكنه سيحدثهم أيضا عن الشاعر هوميروس فإنه يرى للشعر أهمية كبرى، وهو يسأل: «هل كانت توجد الحضارة اليونانية لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر هوميروس وخلفائه؟ وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لو لم توجد البداوة العربية التي سيطر عليها هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟» •••
ويزور الشيخ مصطفى عبد الرازق طه حسين ويتحدثان عن الأخبار الواردة من لندن، لقد عرض أعضاء الوفد التحفظات التي أبدتها البلاد على قواعد الاتفاق المطلوب، وأهم هذه التحفظات ضرورة النص على إلغاء الحماية، ولكن إنجلترا لم تقبل ونتيجة لذلك قطع المصريون المفاوضات وغادروا لندن إلى باريس.
في 26 فبراير 1921 تظهر بريطانيا الرغبة في حل المشكلة المصرية فترسل إلى السلطان فؤاد دعوة ليرسل وفدا رسميا للتفاوض معها في شكل العلاقة «التي تحل محل الحماية البريطانية، فإن هذه الحماية لم تعد نظاما مرضيا.» وعلى هذا الأساس قبلت مصر التفاوض، ولكن تأليف وفد المفاوضة أصبح موضوع خلاف جعل يشتد اشتدادا خطيرا، إن رئيس الوزراء عدلي باشا يكن يرى أن الطبيعي أن يرأس رئيس وزراء مصر وفد مصر الرسمي إلى إنجلترا، على أن يضم هذا الوفد الرسمي ممثلين للوفد المصري الذي يرأسه سعد باشا زغلول، وسعد باشا زغلول يرى أنه هو الذي وكلته الأمة ليعمل للحصول على استقلالها التام، فهو المطالب برئاسة أي وفد يفاوض الإنجليز لكي يكون الاستقلال التام هو النهاية الوحيد المقبولة لهذا التفاوض. إنه يقول إن السلطان هو الذي يعين رئيس وزراء مصر، ولكن السلطان لا يملك أن يأمر في هذا الشأن بغير ما يراه الإنجليز، فكيف يرأس رئيس الوزراء المصري - وأمر تعيينه في مركزه هو إذن بيد الإنجليز - كيف يرأس وفدا هدفه إخراج الإنجليز من البلاد؟
ويصر عدلي باشا على السفر إلى لندن للتفاوض ومعه وفد رسمي، يصدر السلطان أمرا بتشكيله في 19 مايو 1921 لا يضم أحدا من أعضاء الوفد المصري. •••
ويقبل خريف 1921، وقد أتمت السيدة سوزان شهور حملها الثاني وحضرت والدتها من باريس لتكون إلى جوارها وقت الولادة، وفي الثامن من سبتمبر تحس بآلام الوضع فيحضر الطبيب إلى شارع الحواياتي في أول الصباح. يطمئن الوالد والوالدة، ولكن الساعات تمر بطيئة ثقيلة ترهق الوالد بالقلق والمخاوف، قلبه موزع بين صغيرته أمينة وهي جالسة بجواره وبين زوجته التي تعذبه آلامها المتزايدة عذابا لا يعرف كيف يمنع أسبابه، حتى يخرج الطبيب بعد الظهر ضاحكا مبتهجا، يبشر طه حسين بأنه أصبح والدا من جديد.
صفحة غير معروفة