توفي الناخب فريدريك في أوائل مايو عام 1525، بعد أن سمح للوثر ضمنيا بالمضي قدما في الإصلاح الديني، وكانت وفاته بروتستانتية على نحو جلي، فقد توفي بعد تلقي الخمر والخبز معا في آخر عشاء رباني شارك به. وخلفه أخوه جون، الذي دافع بقوة عن حركة الإصلاح الديني، وعمل جنبا إلى جنب مع مواطني فيتنبرج لتأسيس كنيسة بروتستانتية في ولاية ساكسوينا، وطلب منه لوثر - بعدما وجد أن الأبرشيات قد حلت بها الفوضى بعد الثورة، وأنه لم ينضم إليه أي أساقفة يضطلعون بأداء مهامهم التقليدية في الكنائس - أن يعين أربعة مفتشين لمعاينة أوضاع الأبرشيات الاقتصادية والدينية. وبدأ هذا التفتيش - أو هذه الزيارت الرسمية بالتعبير الذي وصفت به - عام 1527، وأعد ميلانشتون ولوثر مجموعة من التعاليم العقائدية والإجرائية، التي شكلت معا أول دستور للأبرشيات البروتستانتية المعاد تنظيمها في منطقة لوثر، إلا أن مواطني فيتنبرج لم يؤسسوا كنيسة خاضعة لسلطة الدولة. فقد فصلت التعاليم فصلا واضحا بين النظام الكنسي والحكومة المدنية، فجاء فيها:
يجب أن تطاع جميع السلطات المدنية، لا لأنها تمثل وسيلة جديدة لطاعة الله، بل لأنها تتيح حياة منظمة يسودها الحب والسلام؛ لذا يجب أن تطاع في كل شيء، إلا إذا أمرت بما يخالف ناموس الله؛ كأن تأمر على سبيل المثال بإهمال الكتاب المقدس أو أجزاء منه. ففي هذه الحالة سنتبع القاعدة الواردة في الآية 29 من الإصحاح الخامس من سفر أعمال الرسل، التي تنص على أنه «ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس».
لكن اتساع حركة الإصلاح الديني الألمانية وترسخها نبع في الواقع من التعاون الوثيق بين الحكام البروتستانتيين وعلماء اللاهوت؛ إذ كان تهديد الإمبراطور شارل الخامس ومستشاريه الكاثوليكيين بالقمع له أبعاد سياسية ودينية. ففي عام 1526 شكل سبعة أمراء بروتستانتيين اتحاد تورجاو الدفاعي، الذي أصبح مع خلفائه عماد مقاومة مساعي الإمبراطورية الرومانية لإجبار المقاطعات البروتستانتية (المدن والأقاليم الحرة التي تبنت حركة الإصلاح الديني) على الخضوع مجددا للسلطة البابوية. وأتيحت لتلك المقاطعات مساحة من الحرية، عندما سمح اجتماع شباير الأول (الذي عقد عام 1526) لكل مقاطعة بإدارة شئونها الدينية كما ترتضي، إلى أن يفصل في تلك الشئون مجلس كنسي. لكن في عام 1529 طالبت الولايات الكاثوليكية التي هيمنت على مجلس شباير الثاني بإلغاء اتفاق عام 1526، ونادت بتنفيذ المرسوم الصادر ضد لوثر وأتباعه في مجلس فورمس عام 1521، فعارضت المقاطعات البروتستانتية التي شكلت الأقلية في ذلك الوقت هذا المرسوم، وألفت اتحاد شباير البروتستانتي.
أتيحت لحركة الإصلاح الديني فترة راحة أخرى عندما زحف الأتراك العثمانيون على أوروبا الوسطى؛ إذ احتاج الإمبراطور شارل للدعم العسكري والمالي من الأقاليم البروتستانتية والكاثوليكية على حد سواء، من أجل الدفاع عن الإمبراطورية. فطلب شارل، بعد حصار الأتراك لفيينا في خريف عام 1529، من أتباع المذهب البروتستانتي والكاثوليكي أن يقدموا بيانا بتعاليم مذهب كل منهما وشعائره في اجتماع العام التالي في أوجسبورج، راميا إلى تحقيق وحدة دينية بين أصحاب المذهبين. تجاهل الكاثوليكيون مطلبه، أما مؤيدو لوثر من أتباع المذهب البروتستانتي فأعدوا في اجتماع بساكسونيا مجموعة من المواد المتصلة بالممارسات البروتستانتية، وألحق فيليب ميلانشتون، الذي ترأس علماء اللاهوت اللوثريين الحاضرين الاجتماع، المواد العملية بلائحة للتعاليم البروتستانتية، ووقع هذه المواد، البالغ عددها ثمانيا وعشرين مادة، سبعة من أمراء ألمانيا وممثلون عن مدينتين ألمانيتين في اجتماع أوجسبورج في يونيو عام 1530، بعد مناقشة علماء اللاهوت ومراجعتهم لها، وقدمت للإمبراطور شارل كبيان ديني وإعلان سياسي في الوقت نفسه. وأصبحت تدريجيا بعد أن رفضها علماء اللاهوت الكاثوليكيون - ليطلق عليها من ثم إقرار أوجسبورج - ميثاقا للمدن والأقاليم البروتستانتية التي بدأت تنسب نفسها إلى المذهب اللوثري. وانسحبت أغلب الفصائل البروتستانتية من اجتماع أوجسبورج، قبل أن يصدر مرسوم باسم شارل يعلن مجددا خروج لوثر عن القانون، ويمهل البروتستانتيين ستة أشهر لإلغاء جميع المبتدعات الدينية في المناطق التابعة لهم.
لم يسمح للوثر بحضور اجتماع أوجسبورج؛ لأنه لم يثق بتمتعه بالحصانة إلا في ساكسونيا فقط، إلا أنه أبقى على تواصله مع ميلانشتون وغيره من علماء اللاهوت عبر مكاتبات شبه يومية، مدركا أن ذلك الاجتماع يمثل نقطة فاصلة في تاريخ حركة الإصلاح الديني. كان لوثر قلقا من نتيجته وحث زملاءه على الثبات، وبمجرد انتهاء الاجتماع، لم يضع لوثر وقتا ورد على المرسوم، فأصدر عام 1531 رسالة بعنوان «تحذير للشعب الألماني الحبيب»، أجاز فيها المقاومة المسلحة في حال سريان المرسوم الصادر ضد البروتستانت. وكان لوثر قد أوصى من قبل بطاعة الإمبراطور شارل، ودعم حربه الدفاعية ضد الأتراك، لكن بعد عام 1530 عدل لوثر عن رأيه، وأوضح أن الحفاظ على الكتاب المقدس يأتي فوق طاعة أي حاكم مدني قد يسعى إلى طمسه:
إن اندلعت الحرب - معاذ الله - لن أنتقد من يدافعون عن أنفسهم ضد الكاثوليكيين القتلة المتعطشين للدماء، ولن أسمح لأي شخص باتهام من يذودون عن أنفسهم بأنهم محرضون على الفتن، بل سأقبل أفعالهم وأتغاضى عنها باعتبارها دفاعا عن النفس.
وقبل ختام الرسالة نفسها رسم لوثر صورة حالكة السواد لما سيئول إليه الوضع إن لم يقاوم أتباعه الإمبراطور:
سيكون عليكم أن تساعدوا في استئصال وتدمير كل [منجزاتنا] ... وأن تحرقوا جميع الكتب الألمانية، وأسفار العهد الجديد، والمزامير وكتب الصلوات والتراتيل وكل الأشياء الجيدة التي كتبناها ... سيكون عليكم أن تبقوا على جهل الجميع بالوصايا العشر والصلاة الربية وأسس العقيدة؛ فتلك كانت الحال من قبل. وسيتعين عليكم أن تمنعوا الجميع من معرفة حقيقة المعمودية، والقربان المقدس ، والإيمان، والحكومة، والزواج والكتاب المقدس. سيكون عليكم أن تمنعوا الجميع من معرفة الحرية المسيحية، وتمنعوا الناس من الثقة بالمسيح واستمداد السلوى منه. فكل هذا لم يكن موجودا من قبل؛ كله مبتدع.
لكن لم يقع أي مما أشار لوثر إليه حتى عام 1548، بعد أن هزم الإمبراطور شارل في نهاية المطاف قادة المذهب البروتستانتي، واستولى على مدينة فيتنبرج. وبدلا من كل هذا، في نهاية عام 1530، عقد جون ناخب ساكسونيا وفيليب حاكم هيسي اجتماعا للأمراء ومسئولي المدن في بلدة شمالكالد لتشكيل اتحاد دفاعي سمي باسم تلك البلدة، ووافق الإمبراطور شارل عام 1532 على عقد هدنة حتى انعقاد مجلس كنسي عام، وسمحت هذه الأزمة التي تجددت عام 1539 للاتحاد بالاتساع سريعا ليشكل كتلة بروتستانتية عسكرية وسياسية هائلة في الإمبراطورية.
خلال الأربعة عشر عاما الأخيرة من حياته، خضع لوثر لناخب جديد في ساكسونيا هو جون فريدريك، الذي خلف أباه الناخب جون بعد وفاة الأخير عام 1532. لم يحاول جون فريدريك أن يكبح لسان لوثر اللاذع في الشئون السياسية، بل حثه على أن يوظف موهبته الشهيرة في مجادلة الخصوم الكاثوليكيين لاتحاد شمالكالد. وسعد لوثر بالامتثال لهذا الأمر، لا سيما أن القضية الأساسية التي واجهت الاتحاد في ذلك الوقت تمثلت في الاختيار بين حضور المجلس الكنسي العام الذي أمر البابا بولس الثالث بعقده من عدمه. ورأى الناخب جون فريدريك أن الحضور سيكون تصرفا غير حكيم، وقد اجتمع أعضاء اتحاد شمالكالد وبعض البروتستانتيين الآخرين في شمالكالد في أوائل عام 1537 لمناقشة الأمر. طلب من لوثر آنذاك أن يكتب ميثاقا لاهوتيا يدرج فيه الموضوعات التي يمكن أو لا يمكن مناقشتها في المجلس القادم، وقد أعرب لوثر عن رأيه في العديد من المنشورات الدينية في أن المجلس لا يمكن أبدا أن يكون ندوة حرة وصريحة ما دام قد انعقد بدعوة من البابا، غير أنه شدد في هذا الميثاق الذي عرف باسم مواد شمالكالد على أن البابا هو المسيح الدجال، وعلى أن النظام البابوي وهم بشري لا يجدي الكنيسة نفعا قائلا: «لو لم يرفع الشيطان مثل هذا الرأس، لكان هذا أفضل كثيرا.» إلا أن مشهد المجلس قاد لوثر إلى صياغة رسالة تاريخية وسياسية مهمة نشرت عام 1539 بعنوان «المجالس والكنيسة»، وحاول لوثر أن يوضح من تاريخ الكنيسة، أن المجالس الكنسية قد ناقضت نفسها؛ ومن ثم لا تصلح كأساس يمكن الوثوق به لإصلاح الكنيسة؛ فقد كانت وظيفتها الأولى هي الحفاظ على العقائد الإيمانية العريقة التي صححتها حركة الإصلاح الديني بناء على الكتاب المقدس، ومن ثم إن عقدت بدعوة من البابا فيستحيل أن تصب في مصلحة المسيحية الحقة التي يجددها المصلحون الدينيون.
صفحة غير معروفة