منذ ذلك الحين لم تعد السياسة تشغل وجدان، بل إنه في كثير من الأحيان كان يقرأ الجرائد من آخرها ولا يكاد يلقي نظرة على الصفحة الأولى فيها.
وسار وجدان طريقه في الدراسة وحصل على ليسانس الحقوق في عام 1971، وكان لا بد أن يؤدي الخدمة العسكرية.
وارتمى مع زملائه خريجي المدارس على شاطئ القنال، يرون الممر المائي العظيم الذي حفره أجدادهم، والذي سالت من أجله الدماء منذ قريب، والعدو اليهودي على الشاطئ الآخر منه ينعم به. وتشتعل في نفوس الشباب نيران لا يعرفها إلا من زار هذه المناطق في تلك الأيام السود الداكنة السواد. إذا تمثل الخزي في أرض ما فهو هذا المكان، وإذا تجسد العار محسوسا ملموسا فهو هذا المكان، وإذا اجتمع الجهل والغباء والحمق والفجور لتكون أشياء ترى بالعين، فهي هذا المكان.
خيانة القيادة للشعب كانت هذا المكان، استهانة صاحب القرار بأصحاب المصير كانت هذا المكان.
جملة قرآنية كانت دائمة الوجيب في قلب وجدان في هذه الأيام، حين يصف سبحانه وتعالى من شاء له عذاب جهنم بقوله: لا يموت فيها ولا يحيا. كان الشاب هناك في جهنم من الخزي والعار والجهل والغباء والحمق والفجور والخيانة، ثم هو لا يموت هناك ولا يحيا. وكان كل شاب قد أصبح والموت في سبيل مصر حين عاد إليها اسمها مصر أملا. وأعجب شيء أن يصبح الموت وهو الموت أملا، وأعجب من ذلك أنهم يعلمون أنه أمل مستحيل التحقيق، ويذكر منهم من يحب الشعر بيت المتنبي الخالد العملاق:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
سيناء أرض مصر، ومسرى النبيين، والمتشرفة بذكر كتاب الله، ومجلى روحانية مصر، ومبعث الفخر لنا نحن المصريين. إن أرضنا مصر أثيرة عند صاحب العرش ذي الجلال والإكرام، يدنسها شراذم كانت في الأرض بددا، تتسول الانتماء إلى وطن، أي وطن. والشباب من جيل وجدان يشهدون بأعينهم كيف تنتهك أعز حرماتهم؟ وكيف تدنس الأرض الطهر؟ وهم يعرفون التاريخ، ويا ليتهم كانوا لا يعرفون. فالجرح في نفوسهم يزداد في كل لحظة عمقا حتى يبلغ الأغوار البعيدة من كرامتهم المصرية، وحتى يدمر أحلامهم الوردية التي موهتها عليهم الدعاية الكاذبة والهتاف الصارخ واللافتات التي يتبينون اليوم أنها كانت مرفوعة على فراغ فنكستها الكارثة. ويسخرون من أيامهم الماضية، ويقول قائلهم للآخر: لم تكن الحرب هي النكسة، وإنما كانت نوعا من الخزي والعار لا تعرف اللغة له وصفا؛ لأن اللغة لم تشهد له مثلا. إنما النكسة كانت تنكيس هذه اللافتات ليتضح أنها كانت تخفي وراها اللاشيء إلا الاعتداء على أعراض الناس وحرمات الدين وكرامات الإنسان وأمجاد مصر. ويجد الشباب نفسه يصلي، ويتجه إلى السماء يسألها العون على ما يلاقون، فقد ضاقت بهم الأرض أن تنبت لهم أملا ولو كان من سراب.
هناك يتجه الشباب إلى الله وقد رسخ في الثوابت من يقينهم أنه لا يردهم إلى كرامة الإنسانية إلا معجزة. وهو وحده سبحانه القادر أن يصنع هذه المعجزة.
سنتان والشباب من زملاء وجدان في هذا الجحيم يموت بما يرى ويحيا بلا إله إلا الله وبمحمد رسول الله. سنتان كلمة تكتب في خمسة أحرف، وتنطق في هنيهة من زمن، ولكنهما مرتا بهم هناك واللحظة تزحزح اللحظة فلا تتزحزح، والدقيقة تدفع الدقيقة فلا تمضي.
صفحة غير معروفة