مع نمو وتوسع المستوطنات الزراعية البدائية، انتقلت روح القمح إلى المعابد مغادرة محرابها الصغير في الحقل. وعندما تحولت المستوطنة إلى مدينة، تركت عشتار سكنها القديم في السنبلة وجذع الشجرة وحلت في التماثيل الرخامية الجميلة المتقنة الصنع، داخل المعابد الضخمة التي تناطح أبراجها المدرجة السحاب ، وتشبهت بآلهة الذكور فانسلت من الحياة النباتية التي كانت روحا لها، لتغدو سيدتها الآمرة. ولكن زارع الحقل الأول الذي آمن بروح القمح وعبدها وتغذى على جسدها، قد بقي على ولائه القديم، وبقيت روح القمح تسكن في كوخه وتعايشه في حقله. لم يعرف أن عشتار قد انتقلت إلى بابل والأقصر وأثينا وروما، ولم يسمع أساطيرها في حلتها الجديدة بعد أن انطلقت من حقله وصيغت في حلل أدبية منمقة. وعندما آمن، في الفترات المتأخرة بالإله الفادي المخلص الذي يموت ليهب العالم الحياة، لم يدر بخلده أن هذا الإله الجديد ليس إلا إلهه هو، وقد عاد إليه في حلة فلسفية قشيبة، وليس إلا روح القمح القديمة التي كانت تموت في كل عام لتهب له الحياة.
ومن الملفت للنظر أن نجد روح القمح ما زالت تعيش في مواطنها الأولى، حيث حقول القمح إلى العصر الحديث. إلا أننا لا نستطيع تتبع آثارها اليوم في المعتقد الديني والطقس، بل في الفلكلور الشعبي، الذي حفظ لنا على طريقته الهيكل العام لأسطورة زارع القمح الأول وطقوسه.
فإلى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، كان الفلاحون في كثير من المناطق الأوروبية، يتحدثون عن «الأم القمح» التي تجوس حقول القمح الناضج في الربيع والصيف، كلما تمايلت السنابل مع هبات الريح، فإذا وصل الحصاد إلى نهايته، ولم يبق في الحقل سوى مجموعة من السنابل قائمة في نهايته، قالوا: إن الأم القمح قد حلت في هذه المجموعة، فإذا أجهز الحصادون على السنابل الأخيرة، جرت العادة في بعض المناطق أن تضم في حزمة واحدة، فتلبس زيا نسائيا، ويطلق عليها اسم الأم القمح، ثم يؤخذ من هذه الحزمة أفضل باقاتها، فيصنع منها إكليل تلبسه أجمل فتاة في القرية. أما الحزمة فتعلق على عمود يحمله شابان، ويسير الجميع وراءه في موكب هازج تتقدمهم الفتاة ذات الإكليل إلى بيت عمدة القرية، الذي يتسلم الإكليل من الفتاة فيعلقه في بيته إلى يوم الأحد، حيث يقوم بتسليمه إلى الكنيسة، فيبقى هناك إلى مساء عيد الفصح من العام المقبل . في ذلك الوقت يتم تسليمه إلى فتاة صغيرة، فتجوس به في الحقل وتفرط حبات السنابل ناثرة إياها فوق القمح الغض الجديد، كما جرت العادة في مناطق أخرى، على أن يربط الشاب الذي حصد الباقة الأخيرة من القمح إلى الحزمة، فيضرب تمثيليا ويدار به في شوارع القرية، ويشار إليه على أنه ابن الأم القمح. وفي بعض المناطق لا تجري هذه الممارسات في الحقل، بل في مكان درس القمح. فروح القمح تهرب أمام الحصادين لتأوي إلى مكان تجميع القمح المحصود، وهناك تقتل تحت ضربات الدارسين أو تهرب إلى الحقل المجاور. وقد يقبض على أول امرأة غريبة تظهر في حقل القمح، فتربط إلى الحزمة الأخيرة، وتؤخذ إلى مكان الدرس، حيث يمثل الحصادون عملية درسها وتذريتها. وقد تحمل المرأة التي قامت بجمع آخر باقات القمح، فتوضع في مكان قريب، ويقوم الحصادون بتمثيل عملية توليدها باعتبارها حاملة بروح القمح التي ستلد منها.
24
سيدة الشعلة
كما كشفت عشتار سر الزراعة للمرأة، فكانت أول من بذر حبة القمح في التراب، كذلك كشفت لها سر النار، تلك القوة القمرية المخصبة، فكانت أول من استخرجها من مكمنها في أغصان الشجرة وحافظ على اتقادها. يدلنا على ذلك كثير من أساطير الشعوب
25
التي تحكي عن شعلة النار الأولى، وكيف جاءت بها إلى الأرض امرأة سرقتها من القمر؟ وكذلك قيام المرأة عبر التاريخ ولدى جميع الشعوب بحراسة النار والإبقاء على اشتعالها في البيوت والمعابد، وذلك كاستمرار لفعلها الخلاق الأول. وفي بعض الأساطير البدائية تنبعث شعلة النار الأولى من قيام إلهة القمر بإمرار يدها بيد ساقيها.
26
وهذا يذكرنا بعمل تشكيلي من الهند يمثل الأم الكبرى وقد باعدت ما بين ساقيها المرفوعتين نحو الأعلى ومن رحمها تنبت الشجرة.
صفحة غير معروفة