في اليوم الثاني لأعياد سيبيل الربيعية التي تقوم احتفالا ببعث الإله آتيس، وهو اليوم المعروف بيوم الدم، تبدأ طقوس الدم، فيستهل كبير الكهان الخصيان الطقس بأن يحدث جرحا كبيرا في ذراعه تجعل الدم ينبثق منه كالنافورة، ثم يتبعه بقية الكهان الذين يسقون بما يفيض من دمائهم جذع الشجرة المنصوب الذي يمثل إلهة الطبيعة، الأم سيبيل، وفيما تعزف الموسيقى ألحانها المجنونة التي تدفع الكهان والمحتفلين إلى رقص وحشي ينسون فيه أنفسهم وإحساسهم بأجسادهم، يتقدم الكهنة الجدد، ممن التحقوا بخدمة الإلهة حديثا، وهم في هيجان النشوة والوجد، فيضحون بذكورتهم أمام تمثال الآلهة، ويرمون بأجزائهم المفصولة تحت قدميها. وبعد انتهاء الاحتفال، تؤخذ الأجزاء فتدفن في غرفة مقدسة سفلية تقع تحت المعبد.
92
هذه الأجزاء المفصولة هي التي تزين عنق أرتميس وديانا في بعض تماثيلها، حيث تظهران وقد لبستا عقدا مصنوعا من الغلفات أو القضبان المقطوعة.
93
إن طقوس الخصاء لتضعنا مرة أخرى أمام عشتار سيدة التناقضات. فكهان عشتار خصيان متبتلون نذروا للإلهة طهارة جنسية كاملة؛ أما كاهناتها فبغايا مقدسات لا ينقطعن عن ممارسة الجنس، موهوبات لكل الرجال. داخل حرم الآلهة يخصى الرجال، وحول معبدها تستمر الدعارة المقدسة في كل الأوقات. تركيب محير لا يمكن فهمه إلا على ضوء الصراع والتعاون القائم بين القوتين العظميين المتجسدتين في الأم الكبرى؛ قوة الموت وقوة الحياة. ففي إطلاق جنسانية الأنثى توكيد على مبدأ الحياة، وفي كف جنسانية الرجل توكيد على مبدأ الموت. ومن ناحية أخرى فإن الخصاء الذي يقوم به الكهان وبعض خاصة العباد، هو نوع من التوحد الصوفي بالروح الأنثوية الكونية، وتوكيد على أولية الأنوثة وتبعية الذكورة ضمن المؤسسة الدينية العشتارية، التي تشكل جزيرة أمومية في بحر الثقافة الذكرية. إن الخصيان إنما يكررون أمام الأم الكبرى دور الإله تموز الذي كان جميلا غضا مؤنث الصفات، خاضعا لعشتار مسلما لها قياده، ودور آتيس الذي خصى نفسه تحت شجرة التين التي ترمز إلى سيبيل، ودور أوزوريس الذي قام أخوه سيت بقتله وتقطيع جسده أربع عشرة قطعة، وجدتها إيزيس وجمعتها فبعثت فيها الحياة عدا عضو الذكورة الذي ضاع إلى الأبد.
وأخيرا، فإن نظام كهانة الأم الكبرى القائم على الخصاء، قد لا يبدو كثير الغرابة إذا قارناه بنظام الرهبنة والكهانة القائم على خصاء رمزي في الديانة المسيحية، حيث يحرم رجال الدين على أنفسهم كل زواج وممارسة جنسية مدى الحياة، وهو نظام مبني على تعاليم السيد المسيح نفسه. نقرأ في إنجيل متى: «إن موسى من أجل قساوة قلوبكم، قد أذن لكم أن تطلقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا. وأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنى وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني، قال له تلاميذه: إن كان هكذا أمر الرجل مع المرأة فلا يوافق أن يتزوج. فقال لهم: ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطي لهم؛ لأنه يوجد خصيان ولدوا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يقبل فليقبل.»
94
الفصل الثامن
عشتار سيدة الأسرار
لعبت المرأة دور المعلم الأول في تاريخ الحضارة؛ فالمرأة أكثر حسا بالخفي والماورائي من الرجل، وأكثر منه تدينا وإيمانا بالقوة الإلهية، وأكثر شفافية روحية. فبينما يتجه عقل الرجل للتعامل مع ظواهر المادة، تتجه نفس المرأة إلى تحسس العوالم الروحانية وتلمس القوى الباطنية؛ مما جعلها الكاهنة الأولى والعرافة الأولى وناطقة الوحي الأولى، في المجتمع الأمومي القديم القائم على حق الأم وسيادة المرأة الاجتماعية وسلطان عشتار الكونية. لذلك تأنست المرأة قبل الرجل وقادته بيده من إيقاع المادة الرتيب إلى ملكوت الروح الإنسانية الرحيب. إن العلاقة بين إنكيدو رجل البراري المتوحش في ملحمة جلجامش، والمرأة التي روضته، هي نموذج أسطوري لما تم بالفعل عند جذور التاريخ والممارسة الجنسية التي تمت بينهما، والتي كشفت بصيرة إنكيدو فجعلته حكيما عارفا، وأبعدت عنه رفاق الأمس من الحيوان، لم تكن باللعبة الجنسية التي يمارسها الإنسان كل يوم، بل كانت رمزا للكدح الذي بذلته المرأة من أجل أن تكشف للرجل العوالم التي اكتشفتها قبله، وجذبه من دارة الجوع والشبع المغلقة، التي يشترك فيها مع الحيوان، إلى دارة الجمال المفتوحة على الأبدية.
صفحة غير معروفة