فإذا عدنا إلى الميثولوجيا المصرية، وجدنا التقاليد الذكرية تطلق على العماء البدئي اسم «نون» وهو الأوقيانوس الذي كان قبل السماء والأرض. في أعماق هذا الأوقيانوس كانت تحوم روح بلا شكل أو هوية. ثم تركزت في داخلها تدريجيا كل ممكنات الوجود، وصار اسمها «آتوم» الذي يعني العدم وأيضا «الاكتمال»، وهو الإله الذي تجلى ذات يوم تحت اسم آتوم-رع، وأخرج إلى الوجود الآلهة والبشر وكل شيء حي. وفي نص آخر نجد أن إله الشمس «رع» كان كامنا في حضن المياه الأولى «نون» تحت اسم «آتوم». ولخوفه على بريقه من الانطفاء انطوى داخل برعم اللوتس الذي ظل هائما على غير هدى في الأعماق المائية، إلى أن جاء يوم سئم فيه من حالته الشبيهة بالعدم، فانبثق بإرادته وتجلى تحت اسم «رع»، ثم أنجب الهواء «شو» وتوأمه الإلهة «تفنوت»، اللذين أنجبا بدورهما الأرض «جيب» والسماء «نوت».
5
إن برعم اللوتس في هذه الأسطورة هو جبل السماء والأرض، البيضة الكونية التي تنطوي في داخلها على ممكنات الوجود، والكتلة الأولى المولدة من الأوروبوروس الكوني التي انقسمت إلى السماء والأرض وبقية مظاهر الكون. ونحن ما زلنا حتى الآن ضمن العناصر الأسطورية الأولى التي وضعها النص السومري ومن بعده البابلي. ولسوف نتابع هذه العناصر في ميثولوجيا شعوب أخرى.
تقتفي أسطورة التكوين التوراتية أثر أسطورة التكوين البابلية، فتعزو شق المياه الأولى وتكوين السماء والأرض من مادتها إلى الإله يهوه، الذي قام من قبله مردوخ بالمهمة ذاتها. نقرأ: «في البدء خلق الرب السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الرب يرف على وجه المياه. وقال الرب: ليكن نور؛ فكان نور. ورأى الرب أنه حسن، وفصل الرب بين النور والظلمة، ودعا الرب النور نهارا والظلمة دعاها ليلا. وكان مساء وكان صباح يوما واحدا. وقال الرب: ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه. فعمل الرب الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك. ودعا الرب الجلد سماء. وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا. وقال الرب: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة وكان كذلك، ودعا الرب اليابسة أرضا ومجتمع المياه دعاه بحارا.» إذا تغاضينا عن التناقض الواضح في هذا النص، والذي يرجع في أصله إلى إدماج روايتين بعضهما ببعض، وجدنا حالة السكون الأولى والعماء البدئي ممثلة بالمياه والظلمة وروح الرب الذي يرف فوق سطح الماء، في تموج أبدي دونما هدف أو غاية. ومطلع الأسطورة يتشابه في جوهره العام وإيحاءاته مع مطلع التكوين البابلي عندما كان آبسو وتعامة وممو يمزجون أمواههم معا في سكون مطلق وتناغم أزلي. كما أن روح الرب الذي يرف فوق سطح الماء يشبه تلك الروح التي كانت تحوم دون شكل أو قصد داخل الأوقيانوس البدئي في الأسطورة المصرية، كما يشبه برعم اللوتس الذي يرحل في أعماق المياه في حالة أشبه بالعدم. وكما جاء وقت سئم فيه الإله رع من كمونه فأظهر نفسه بإرادته الخاصة، كذلك يفعل يهوه الذي أظهر الضدين الأولين وهما النور في مقابل الظلام، وأتبعهما بالمذكر والمؤنث فشق المياه الأولى مكونا من شقيها السماء والأرض، كما شق مردوخ جسد تعامة.
وفي بلاد اليونان تقوم أسطورة التكوين الإغريقية، وفقا لهزيود: «إنه في البدء كان العماء، ظلمة وامتدادا بلا نهاية، ومن العماء ظهرت الأرض «جايا»، ثم الحب والرغبة «إيروس». وبعدها أنجبت جايا، دونما زوج، بكرها السماء «أورانوس» الذي غطاها من كل جهاتها، ثم خلقت الجبال والمحيط بأمواجه المتناغمة. وكانت الأرض خالية من كل حياة، فتزوجت جايا ابنها أورانوس وأنجبت منه الجيل الأول من الآلهة ثم الجيل الثاني، وهم الآلهة «التيتان».»
6
ويبدو أن الإلهة جايا كانت المعبود الأول للإغريق القدماء قبل فترة نضج الحضارة الإغريقية وظهور آلهة الأوليمب. فهي الأم الكبرى التي تهب الخصب للأرض والإنسان والحيوان، وهي خالقة الكون والآلهة والبشر، وكان آلهة الأوليمب يقسمون باسمها.
7
تقدم لنا نظرية التكوين الأورفية تقليدا إغريقيا آخر. ففي البدء كان الزمن الذي أنجب البيضة الكونية الفضية. من هذه البيضة خرج الإله فانيس-ديونيسيوس المضيء، وكان إلها مؤنثا ومذكرا في آن معا، له رأس ثور وجناحان. في داخله انطوى على بذور الوجود جميعا، خلق السماوات والأرض والشمس والنجوم وأنجب الآلهة. كانت «نيكس» أي الليل ابنته الأولى، وبعدها أنجبت «جايا» و«أورانوس» ثم «كرونوس».
8
صفحة غير معروفة