تمهيد
(1) نواميس الحياة
من أهم نواميس الحياة النمو أو التجدد، وهو ينطوي على دثور الأنسجة وتولد ما يحل محلها، ومعنى ذلك أن الجسم الحي مؤلف من خلايا لكل منها حياة مستقلة إذا انفضت ماتت الخلية وانحلت أجزاؤها وانصرفت، وتولدت في مكانها خلية جديدة تتكون من العصارات الغذائية كالدم ونحوه، فالجسم الحي في انحلال وتولد دائمين، حتى قالوا: إن جسم الإنسان يتجدد كله في بضع سنين، أي لا يبقى فيه شيء من المواد التي كان يتألف منها قبلا. وبغير هذا التجدد لا يكون الجسم حيا، وإذا حدث في جسم الحيوان ما يمنع من تجدد الأنسجة أسرع إليه الفناء، فالتجدد ضروري للحياة.
وحياة الأمة مثل حياة الفرد بل هي ظاهرة فيها أكثر من ظهورها فيه، لأن الأمة إنما تحيا بدثور القديم وتولد الجديد، فكأن أفراد الأمة خلايا يتألف منها بدن تلك الأمة، وهو يتجدد في قرن كما يتجدد جسم الإنسان في عقد من عقود تلك القرون.
وإذا تتبعنا نمو الأمة بتوالي الأجيال رأيناها تتفرع وتتشعب، فتصير الأمة الواحدة أمما يتفاوت البعد بينها بتفاوت الأزمان والأحوال. وكل أمة من هذه تتشعب بتوالي الدهور إلى أمم أخرى وهكذا إلى غير حد، وهو ما يعبرون عنه بناموس الارتقاء العام. (2) اللغة كائن حي
ويتبع الأحياء في الخضوع لهذه النواميس ما هو من قبيل ظواهر الحياة أو توابعها، وخاصة ما يتعلق منها بأعمال العقل في الإنسان كاللغة، والعادات، والديانات، والشرائع، والعلوم، والآداب، ونحوها. فهذه تعد من ظواهر حياة الأمة، وهي خاضعة لناموس النمو والتجدد ولناموس الارتقاء العام. ولكل من هذه الظواهر تاريخ فلسفي طويل، نعبر عنه بتاريخ تمدن الأمة أو تاريخ آدابها أو علومها أو حكومتها أو أديانها أو نحو ذلك، وهي أبحاث شائقة فيها فلسفة ونظر، ومن هذا القبيل تاريخ اللغة وآدابها. •••
والبحث في تاريخ اللغة على العموم يتناول:
أولا:
النظر في نشأتها منذ تكونها مع ما مر عليها من الأحوال قبل زمن التاريخ، كتكون الأفعال والأسماء والحروف، وتولد صيغ الاشتقاق وأساليب التعبير ونحو ذلك. والبحث في هذا كله من شأن الفلسفة اللغوية، وقد فصلناه في كتابنا «الفلسفة اللغوية».
ثانيا:
صفحة غير معروفة