فنون وعلوم اليونان: لا يتوقف تقدم أمة على كثرة عدد أهلها؛ إذ إن المصريين واليونانيين واليهود ما كانت إلا أمما صغيرة مع أنهم وصلوا إلى الدرجة الرفيعة، ووطئوا السماكين بأقدامهم، وسطع صيتهم، وعلت كلمتهم، انظر كيف فتح اليونانيون ديار مصر ومملكة الآسوريين وبابل وبلاد العجم، وتعلموا كل ما كانت تعلمه هذه الأمم، وزادوا عنهم بأشياء كثيرة، أخرجوها من حيز العدم إلى الوجود. فإن الأثينيين كانوا ينظمون الشعر وينشدون القصائد، ويتلون الخطب والمقالات في المحافل، ويؤرخون التواريخ، ويصنعون التآليف، وقد ترجمت تصانيفهم وأشعارهم من بعدهم، فكل من قرأها تقع عنده موقع الاستحسان، ويكاد يطير فرحا بها، وتشهد لهم بجودة أفكارهم وسمو ملكاتهم أشعار أشهر شعرائهم «مريوس، وهزيودوس، وأشيل، وسوفاكل»، وتدلنا على فطنتهم، وحدة ذكائهم؛ كتب «هيردوت» المؤرخ الشهير و«توسيديد»، وتنبئنا بشدة فصاحتهم خطب ديموستين، ومن قلدهم وحذا حذوهم أصبح خطيبا وأضحى كاتبا.
وقد شيدت اليونانيون معابد عظيمة، ورفعت تماثيل منقوشة بأحسن نقش وأبدع إتقان، وحفظوا بأوفر اعتناء كل ما أمكنهم وجوده من آثار القدماء.
واليونانيون هم أول من أوجد مبادئ العلوم وأوضح حجمها، فبقراط ابتدأ الطب، وكتب فيه عدة فصول مفيدة، وظهر بعده جالينوس وروفس وغيرهما، ووسعوا نطاق دائرته، وأرسطاطاليس أنشأ التاريخ الطبيعي، وأوكليدس أظهر الهندسة إلى عالم الوجود، وأرشميدس ابتدع علم «الميكانيكا» أي علم رفع الأثقال، وأرالوستينس ابتدع الجغرافيا، وهيباركس أوجد الفلك. وهذه المبادئ التي ولدتها اليونانيون من أفكارهم بدون معلم ولا موقف نمضي في تعلمها الأيام العديدة والليالي الطويلة، ونؤرق عيوننا وننضي جسومنا، وندخل المدرسة صبيانا ونخرج كبارا، وبالجملة نصل إلى معرفتها مع المشقة والعناء. أليس الفضل أن يكون لليونانيين؛ إذ منهم تعلمت الرومانيون أولا، ومن الرومانيين تعلمت الغربيون، وعلى الأخص أهل إيطاليا وفرنسا.
ملخص تاريخ اليونان: أولا: إن اليونانيين أمة صغيرة في غاية الذكاء والنشاط، وأسست مستعمرات عديدة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ثانيا: إن بلاد اليونان كانت منقسمة إلى عدة مدن صغيرة، وكانت الحروب منتشبة بينهما على الدوام، وأشهر هذه المدن مدينتا أسبرطة وأثينا. ثالثا: إن أسبرطة مدينة جبليين وجنود، وكانت أعظم بلاد اليونان جيوشا. رابعا: أن أثينا كانت مدينة بحريين، وكانت أشهر بلاد اليونان في التشخيص. خامسا: إن أثينا وأسبرطة اتحدا مع بعضهما، وشنا جملة غارات مع ملك الفرس من سنة أربعمائة وتسعين إلى سنة أربعمائة وثمانين قبل المسيح. سادسا: إنهما شنا الغارة مع بعضهما، وأضرما نار الحرب، وهزمت أثينا في هذه الحرب سنة أربعمائة وأربع قبل المسيح.
سابعا : إن مقدونيا كانت أقوى بلد في بلاد اليونان، وفتح ملكها إسكندر جميع مملكة الفرس من سنة ثلاثمائة وثلاث وثلاثين إلى سنة ثلاثمائة وثلاث وعشرين قبل الميلاد. ثامنا: إنه بعد ما مات إسكندر تقاسمت قواده مملكته. تاسعا: قد أسست جملة ممالك يونانية في الشرق، واشتهرت إسكندرية تخت مملكة مصر بمكتبتها ومدرسة علومها وفنونها.
عاشرا: إن اليونانيين اشتهروا في العالم؛ لأنه كان موجودا فيهم شعراء فصحاء وكتاب نبلاء، وصنعوا ونقشوا تماثيل جملوها بالإتقان، وأوجدوا جميع مبادئ العلوم وعلموا جميع الأمم الأخرى.
تاريخ الرومانيين القدماء
الكلام على تأسيس رومة: إن رومة كانت في الأعصر الخالية والسنين الماضية من أشهر ممالك الأرض، وأعظمها رفعة وشأنا، وأجلها قدرا، على أنها لم تكن في مبدأ الأمر إلا مدينة صغيرة مربعة مؤسسة على ربوة بالقرب من نهر «التبر» في وسط إيطاليا تقريبا، وأسست في سنة أربع وخمسين وسبعمائة قبل الميلاد. وإنما سميت رومة نسبة إلى بانيها «رومولوس»، ولم تقف المؤرخون على حقيقة تاريخه، وكذلك لم تعلم حقيقة خبر الملوك الذين حكموها في الأصل.
الكلام على جمهورية رومة: كان الملك الذي يحكم رومة لا ينفذ حكما ولا يقضي بأمر إلا باتفاق كبراء الأمة، ومشاوراتهم في الأمر، وفي سنة عشر وخمسمائة قبل الميلاد تجمعت كبار الأمة وحكموا بطرد «تركوين» الذي كان ملكا يوم ذاك، واستولى على زمام الملك اثنان من القضاة، وتلقب كل واحد منهم بلقب قنصل؛ أي منفذ الأحكام، وكانت الأمة تنتخب هاته القناصل في كل سنة، وكانت رؤساء العائلات تجتمع في جمعية لتعطي آراءها فيما يعود بالصالح والمنفعة على الأمة، وهذه الجمعية كانت تلقب بجمعية «السناتو»؛ أي ديوان أعيان المملكة.
شقاق الأشراف والعامة: كانت سكان رومة منقسمة إلى حزبين؛ الأول يقال له حزب الأشراف، والثاني يدعى بحزب العامة. فكانت الرومانيون الذين من نسل العائلات القديمة تدعى «بالأشراف»، وأما من أتوا دخلاء في ديار رومة، واستوطنوا فيها، وليسوا من نسل الرومانيين القدماء، فكانوا يلقبون «بالعامة»، وكان عدد هؤلاء يزيد عن عدد أولئك بكثير؛ إذ إن أغلب سكان المدن المجاورة هرعوا من ديارهم، ودخلوا رومة، وانتظموا في عقد الأمة الرومانية، ولما أرادت الأشراف الاستقلال بالحكم، وطلبت العامة أن تشاركهم في الحكومة، وأبت الأشراف ذلك الطلب؛ نشأت من ذلك فتن أفضت إلى الشقاق والمشاجرات بين الطرفين. ومن ذلك ذهب العامة من رومة، وتخلوا عنها، فمجلس «السناتو» لأجل أن يرجعهم قرر بأن يكون منهم رؤساء يحامون عن حقوق الشعب، ويكون لهم الحق بأن يمنعوا القناصل عن عمل أي شيء سوى المحاماة، ثم حصل نزاع ثانيا بين الفريقين، مكث أكثر من مائة سنة، وفي آخر الأمر قرر الأشراف بأن تعين قناصل من العامة، وذلك كان في سنة ست وستين وثلثمائة قبل الميلاد، وعندئذ استتبت الراحة، وحصل هدوء من الفريقين.
صفحة غير معروفة