بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله على آلائه ونعمائه، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، شَهَادَة أدخرها ليَوْم لِقَائِه، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَسيد أصفيائه، وَخَاتم رسله وأنبيائه، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وأزواجه وَأَصْحَابه وخلفائه، وَرَضي الله عَن الْأَئِمَّة المهديين من أمنائه.
وَبعد:
فَإِنِّي لما رَأَيْت أُنَاسًا يَأْخُذُونَ منا، ويسلبون علم الحَدِيث عَنَّا، ويجعلون ذَلِك عَيْبا وطعنا (ويظهرون ذَلِك فِيمَا بَينهم، ويخفون عَن النَّاس مينهم، ويريدون أَن يطفئوا نور الله بأفواههم، وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ، إرغاما لَهُم، وتسفيها لآرائهم) (وينسبون إِلَيْنَا خَاصَّة الْعَمَل بِالْقِيَاسِ، ويظهرون ذَلِك فِيمَا بَين النَّاس، ويصرحون بِالرَّدِّ علينا وَلَا يكنون، وَلَا يراقبون الله فِيمَا يَقُولُونَ) .
سلكت طَرِيقا يظْهر بهَا حسدهم وبغيهم، وَيبْطل بهَا قصدهم وسعيهم، وَذكرت الْأَحَادِيث الَّتِي تمسك بهَا أَصْحَابنَا فِي مسَائِل الْخلاف، وسلكت فِيهَا سَبِيل الْإِنْصَاف، (وعزيت الْأَحَادِيث إِلَى من خرجها، وأوردت من طرقها أوضحها وأبهجها)، ليظْهر لمن نظر فِيهَا وأنصف، أننا أَكثر النَّاس انقيادا لكتاب الله تَعَالَى، وَأَشد اتبَاعا لحَدِيث رَسُول الله ﷺ، (وإننا لمحرزون قصبات السَّبق فِي سلوك طَرِيق الْحق) .
1 / 37
فألفت هَذَا الْكتاب، ووسمته باللباب فِي الْجمع بَين السّنة وَالْكتاب، وَجَعَلته عدَّة ليَوْم الْحساب.
وَالله أسأَل أَن يصلح مني القَوْل وَالْعَمَل وَالنِّيَّة، وَلَا يَجْعَلنِي مِمَّن يَمُوت على عصبية، ويسهل حفظه على ملتمسيه وينفع من نظر فِيهِ.
1 / 38
«كتاب الطَّهَارَة»
قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا﴾ .
وَالطهُور هُوَ الطَّاهِر فِي نَفسه، (وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا﴾)، (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ﴾ .
وَالطهُور يذكر وَيُرَاد بِهِ المطهر لغيره، وَمِنْه قَوْله [ﷺ] لما سُئِلَ (عَن مَاء) الْبَحْر (فَقَالَ): " هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ، (الْحل ميتتة) ".
1 / 39
(وَيذكر وَيُرَاد بِهِ الطَّاهِر لَا المطهر، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا﴾، وَقَوله [ﷺ]: " إِن الصَّعِيد الطّيب طهُور "، " وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا "، عِنْد من يعْتَقد أَن التَّيَمُّم لَا يرفع الْحَدث. وَمِنْه قَول جرير:
(... عَذَاب الثنايا ريقهن طهُور ...)
فَإِن قيل: لَو كَانَ الطّهُور هُنَا بِمَعْنى الطَّاهِر لم يكن لشراب أهل الْجنَّة مزية على شراب أهل الدُّنْيَا، وَلم يكن لريق من وصفهن جرير فَضِيلَة على غَيْرهنَّ.
قيل لَهُ: لَا يلْزم ذَلِك، لِأَن شراب أهل الدُّنْيَا مِنْهُ مَا هُوَ نجس كَالْخمرِ، وَمِنْه مَا هُوَ مدنس بِمَا يلازمه من حرارة أَو برودة يحصل مِنْهُمَا للشارب مضرَّة، وشراب أهل الْجنَّة ينزه عَن هَذِه الْأَشْيَاء.
قَالَ الله تَعَالَى فِي صفة خمر الْجنَّة: ﴿لَا فِيهَا غول وَلَا هم عَنْهَا ينزفون﴾، فَلهَذَا وَصفه الله بِالطَّهَارَةِ.
والطاهر عبارَة عَن المنزه عَنَّا يستقذر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: (كَانَ) ريقهن منزه عَمَّا يستقذر من دم يخرج من الْأَسْنَان فيختلط بِهِ، أَو من رَائِحَة قبيحة تجاوره من أثر طَعَام يبْقى بَين الْأَسْنَان، أَو مَا يعلوها من أبخرة تتصعد من الْمعدة عِنْد خلوها وَهُوَ الْمُسَمّى بالخلوف، فَبِهَذَا ثبتَتْ فَضِيلَة ريقهن على ريق غَيْرهنَّ) .
(وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا﴾)
وَمِنْه قَوْله [ﷺ] " إِن الصَّعِيد الطّيب طهُور ".
1 / 40
وَكَونه مطهرا لغيره ثَبت بِالْإِجْمَاع أَو بقوله تَعَالَى: ﴿وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ﴾ .
(فَإِن قيل: هَذَا الحَدِيث يدل على أَن الطّهُورِيَّة غير الطاهرية فَالْحَدِيث حجَّة عَلَيْك.
قيل لَهُ: إِنَّمَا تمسكت بِهَذَا الحَدِيث من حَيْثُ إِنَّه أطلق اسْم الطّهُور على مَا لَا يطهر غَيره، فَإِن عنْدك لَو نوى فِي التَّيَمُّم رفع الْحَدث لم يَصح، وَلَو نوى اسْتِبَاحَة الصَّلَاة صَحَّ، فَدلَّ على أَن التُّرَاب لَا يرفع (الْحَدث) وَلَا يزِيل وَحده الْخبث وَلَا معنى للطهور إِلَّا كَونه يرفع الْحَدث ويزيل الْخبث) .
(بَاب إِذا اخْتَلَط المَاء بالسدر والخطمى والكافور فَهُوَ طهُور)
مَالك، عَن أم عَطِيَّة الْأَنْصَارِيَّة ﵂ أَنَّهَا قَالَت: دخل علينا
1 / 41
رَسُول الله [ﷺ] حِين توفيت ابْنَته فَقَالَ: " اغسلنها ثَلَاثًا، أَو خمْسا، أَو أَكثر من ذَلِك إِن رأيتن ذَلِك، بِمَاء وَسدر، واجعلن فِي الْآخِرَة كافورا أَو شَيْئا من كافور، فَإِذا فرغتن فآذنني "، قَالَت: فَلَمَّا فَرغْنَا آذناه فأعطانا حقوه فَقَالَ: " أشعرنها إِيَّاه ".
قَالَ مَالك: " تَعْنِي بحقوه، إزَاره ".
البُخَارِيّ وَمُسلم، عَن ابْن عَبَّاس ﵄ قَالَ: (بَيْنَمَا) رجل وَاقِف مَعَ رَسُول الله [ﷺ] بِعَرَفَة إِذْ وَقع من رَاحِلَته " فوقصته "، وَفِي رِوَايَة " فأقعصته "، فَذكر للنَّبِي [ﷺ] فَقَالَ: " اغسلوه بِمَاء وَسدر وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ "، وَفِي رِوَايَة " فِي ثوبيه "، وَلَا تحنطوه، وَلَا تخمروا رَأسه "، وَفِي رِوَايَة " وَلَا / تغطوا وَجهه وَلَا تقربوه طيبا فَإِنَّهُ يبْعَث (يُلَبِّي) "، وَفِي رِوَايَة " وَهُوَ يُلَبِّي "، وَفِي رِوَايَة " فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبدا "، وَفِي رِوَايَة " فَإِن الله يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة ملبيا ".
وَجه التَّمَسُّك بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين أَن النَّبِي [ﷺ] أَمر بِالْغسْلِ بِالْمَاءِ والسدر، وَالْغسْل بِهِ لَا يتَصَوَّر إِلَّا بِأحد شَيْئَيْنِ، إِمَّا بخلطه بِالْمَاءِ، أَو بِوَضْعِهِ على الْجَسَد وصب المَاء عَلَيْهِ، وَكَيف مَا كَانَ فَلَا بُد من الِاخْتِلَاط والتغير، فَلَو سلب الطّهُورِيَّة لما أَمر بِالْغسْلِ بِهِ، أَلا ترى أَن التُّرَاب لما لم يسلب الطّهُورِيَّة أَمر بالتعفير بِهِ من ولوغ الْكَلْب، ثمَّ إِنَّه [ﷺ] أَمر بِجعْل الكافور فِي الْمرة الْأَخِيرَة وَلم يَأْمر بعد ذَلِك بِالْغسْلِ بِالْمَاءِ القراح، فَدلَّ على أَنه يجتزئ بِهِ.
1 / 42
وَيُؤَيّد هَذَا مَا روى أَبُو دَاوُد، عَن رجل من بني سوأة، عَن عَائِشَة ﵂، عَن النَّبِي [ﷺ]: " أَنه كَانَ يغسل رَأسه بالخطمى وَهُوَ جنب، (يجتزئ) بذلك وَلَا يصب عَلَيْهِ المَاء ".
فَإِن قيل: فِي سَنَد هَذَا الحَدِيث رجل مَجْهُول، والمجهول غير مَقْبُول الرِّوَايَة، قيل لَهُ: الْمُسلم عِنْد أَصْحَابنَا مَقْبُول الرِّوَايَة مَا لم يظْهر فسقه، فَإِن النَّبِي [ﷺ] قبل خبر الْأَعرَابِي فِي رُؤْيَة الْهلَال بعد أَن عرفه مُسلما وَلم يسْأَل عَن صفة زَائِدَة (على) الْإِسْلَام.
التِّرْمِذِيّ عَن ابْن عَبَّاس ﵄ قَالَ: " جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي [ﷺ] فَقَالَ: " إِنِّي رَأَيْت الْهلَال "، فَقَالَ: " أَتَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ... أَتَشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله؟ "، قَالَ: " نعم "، قَالَ: يَا بِلَال أذن فِي النَّاس أَن يَصُومُوا غَدا ".
فَإِنَّهُ قيل: يجوز أَن يكون النَّبِي [ﷺ] نزل عَلَيْهِ الْوَحْي بعدالته وتصديقه.
قيل لَهُ: الظَّاهِر أَن هَذَا لم يكن، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون نزل عَلَيْهِ الْوَحْي بعد أَن سَأَلَهُ عَن إِسْلَامه، أَو قبل أَن (يسْأَل) عَنهُ.
لَا وَجه إِلَى الأول، لِأَنَّهُ حِين سَأَلَهُ عَن إِسْلَامه فَأَجَابَهُ عمل بِمُوجب خَبره، ونادى بالصيام فِي ذَلِك الْمجْلس على مَا شهد بِهِ ظَاهر الحَدِيث، وَالنَّبِيّ [ﷺ] كَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي عرف بِهِ من كَانَ عِنْده.
1 / 43
قَالَت عَائِشَة ﵂: " وَلَقَد رَأَيْته ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فِي الْيَوْم الشَّديد الْبرد فَيفْصم عَنهُ وَإِن جَبينه يتفصد عرقا، إِلَى غير ذَلِك من الْأَحَادِيث الدَّالَّة على تغير حَاله عِنْد نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ [ﷺ] .
وَلَا وَجه إِلَى الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَو كَانَ عَالما بعدالته وَصدقه قبل ذَلِك - مَعَ أَن الْعَدَالَة صفة زَائِدَة على الْإِسْلَام وَهِي مرتبَة عَلَيْهِ وَيشْتَرط إظهارها - لم يسْأَله عَن إِسْلَامه، لِأَن الْعلم بِالْعَدَالَةِ مَشْرُوط بِالْعلمِ بِالْإِسْلَامِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ عَن إِسْلَامه وَلم (يسْأَل) عَن عَدَالَته دلّ أَن ظُهُور الْإِسْلَام هُوَ الْمُعْتَبر فِي قبُول الْخَبَر دون الْعَدَالَة.
فَإِن قيل: إِنَّمَا قبل النَّبِي [ﷺ] خَبره لِأَنَّهُ أخبر بذلك حِين أسلم، وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت طَاهِرا من كل فسق بِمَثَابَة من علم إِسْلَامه حِين / بُلُوغه، وَإِسْلَام من هَذَا حَاله (عَدَالَة)، فَإِذا تطاول أمره لم يعلم بَقَاؤُهُ على الْعَدَالَة.
قيل لَهُ: إِذا ثبتَتْ عَدَالَته عِنْد بُلُوغه وإسلامه فَالظَّاهِر بَقَاؤُهَا إِلَى أَن يثبت مَا يغيرها، ثمَّ إِن الله ﷾ أَمر بالتثبت عِنْد مَجِيء الْفَاسِق بالنبأ بقوله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ وَلم يَأْمر بالتثبت عِنْد مَجِيء مَشْهُور الْعَدَالَة وَلَا عِنْد مَجِيء مستورها، فَمَا لم يقم دَلِيل من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع أَو اعْتِبَار (صَحِيح) يُوجب رد خَبره وَإِلَّا وَجب قبُوله.
فَهَذَا نوع من أَنْوَاع الحَدِيث قبلناه، وأوجبنا الْعَمَل بِهِ، وَتَركنَا الْقيَاس من
1 / 44
أَجله، وغيرنا لم يقبله وَعمل بِالْقِيَاسِ مَعَ وجوده وَادّعى أَنه مُتبع للْحَدِيث دُوننَا، فَالله يحكم بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين.
قلت: وَقد تضمن مَا استدللنا بِهِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من الْأَحَادِيث ثَلَاث مسَائِل مُخْتَلف فِيهَا:
الأولى: أَن الْمحرم إِذا مَاتَ لَا يَنْقَطِع إِحْرَامه بِالْمَوْتِ بل يبْقى أَثَره، وَهُوَ مَذْهَب الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، اسْتِدْلَالا بالمحرم الَّذِي وَقع عَن رَاحِلَته فَمَاتَ. وَذهب أَصْحَابنَا وَمَالك إِلَى أَن الْإِحْرَام يَنْقَطِع بِالْمَوْتِ وَيفْعل بِالْمَيتِ الْمحرم مَا يفعل بِسَائِر الْمَوْتَى، اسْتِدْلَالا بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُور وَهُوَ قَوْله [ﷺ]: " إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث ". " الحَدِيث "، وتقليدا لِابْنِ عمر ﵄، (فَإِن ابْن عمر مَاتَ لَهُ ابْن فِي الْجحْفَة وَهُوَ محرم فخمر رَأسه وَوَجهه وَقَالَ: " لَوْلَا أَنا حرم لطيبناه " فَلم يقطع ابْن عمر أَن ابْنه بِمَنْزِلَة الموقوص الَّذِي أخبر عَنهُ [ﷺ] أَنه يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا، ثمَّ من مَاتَ بعد هَذَا الموقوص فِي حَال الْإِحْرَام لَا يعلم هَل يقبل حجه، وَهل يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا أم لَا؟ وَلَا يقطع على غير ذَلِك إِلَّا بِوَحْي فَافْتَرقَا) . ويجيبون عَن حَدِيث الْمحرم أَن النَّبِي [ﷺ] علق الحكم بعلة وَهِي بَقَاء الْإِحْرَام فِي الْآخِرَة وَذَلِكَ لَا يعلم فِي غير هَذَا الْمَيِّت فَلَا يجوز إِثْبَات الحكم مَعَ عدم الْعلم بِالْعِلَّةِ، وَلَا عُمُوم فِي لفظ هَذَا الْخَبَر فَلَا دَلِيل فِيهِ.
1 / 45
الثَّانِيَة: أَنه لَا يجوز للْمحرمِ تَغْطِيَة رَأسه وَلَا وَجهه، للروايتين المتقدمتين فِي حَدِيث الْمحرم.
الثَّالِثَة: إِذا شهد بِرُؤْيَة هِلَال رَمَضَان عدل وَاحِد وَجب الصَّوْم، خلافًا للشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه، اسْتِدْلَالا بِحَدِيث الْأَعرَابِي الَّذِي شهد بِرُؤْيَة الْهلَال. وَيُؤَيِّدهُ مَا روى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عمر ﵄ قَالَ: " ترَاءى النَّاس الْهلَال فَأخْبرت رَسُول الله [ﷺ] أَنِّي رَأَيْته، فصَام وَأمر النَّاس بصيامه ".
(ذكر مَا فِي الْحَدِيثين الْمَذْكُورين فِي أول الْبَاب من الْغَرِيب:)
الحقو - بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا وَبعدهَا قَاف سَاكِنة وواو - قيل هُوَ المئزر، وَأَصله مشد الْإِزَار من الْإِنْسَان وهما الخاصرتان، وَقيل طرفا الْوَرِكَيْنِ، ثمَّ سمي بِهِ
1 / 46
الْإِزَار للمجاورة. وأشعرنها إِيَّاه: أَي اجعلنه يَلِي جَسدهَا والشعار (مَا) يَلِي الْجَسَد لِأَنَّهُ يَلِي شعر الْإِنْسَان، والدثار مَا فَوق الشعار، وَمِنْه قَوْله [ﷺ]: " الْأَنْصَار شعاري وَالنَّاس دثاري ". أَي أَنهم البطانة والخاصة.
فَائِدَة: وَهَذِه الْبِنْت المتوفاة هِيَ زَيْنَب زَوْجَة أبي الْعَاصِ بن الرّبيع، على الصَّحِيح، وَهِي أكبر بَنَاته، / وَأم كُلْثُوم توفيت وَهُوَ غَائِب ببدر [ﷺ] .
وقصت: بقاف مَفْتُوحَة وصاد مُهْملَة مَفْتُوحَة وتاء التَّأْنِيث، أَي صرعته فدقت عُنُقه. وأقعصته: بِهَمْزَة مَفْتُوحَة وقاف سَاكِنة وَعين مُهْملَة (وصاد مُهْملَة) مفتوحتان وتاء التَّأْنِيث، أَي أماتته سَرِيعا.
1 / 47
(بَاب " المَاء الْمُسْتَعْمل نجس فِي رِوَايَة ")
(ذكر مَشَايِخ بَلخ عَن أبي حنيفَة ثَلَاث رِوَايَات فِي المَاء الْمُسْتَعْمل.
إِحْدَاهَا: أَنه نجس نَجَاسَة مُغَلّظَة (كالبول وَالْخمر) وَهِي رِوَايَة الْحسن بن زِيَاد عَنهُ.
وَالثَّانيَِة: أَنه نجس نَجَاسَة خَفِيفَة وَهِي رِوَايَة أبي يُوسُف عَنهُ.
وَالثَّالِثَة: أَنه طَاهِر غير طهُور، وَهِي رِوَايَة مُحَمَّد بن الْحسن عَنهُ.
ومشايخ الْعرَاق رووا عَن أبي حنيفَة أَنه طَاهِر غير طهُور رِوَايَة وَاحِدَة، واختارها الْمُحَقِّقُونَ من أَصْحَابنَا وَهِي القَوْل الْأَشْهر الأقيس الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَجه الرِّوَايَة الأولى): قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا﴾ فتسمية الْغسْل طَهَارَة يشْعر بالحكم باستقذار بدن الْمُحدث، لِأَن الطَّهَارَة فِي اللُّغَة عبارَة عَن التَّنَزُّه عَمَّا يستقذر. يُؤَيّد هَذَا قَوْله تَعَالَى ﴿فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا﴾ .
وروى مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [ﷺ]:
1 / 48
" لَا يغْتَسل أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم وَهُوَ جنب ". وَفِي رِوَايَة قَالُوا: فَكيف نَفْعل يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ قَالَ: " يتَنَاوَلهُ تناولا ".
فَثَبت بِهَذَا (أَن الْحَدث) معنى مُقَدّر فِي الْمحل يطْلب زَوَاله. وَذَلِكَ الْمَعْنى مَانع من الصَّلَاة.
(وَقَوله) [ﷺ]: " سُبْحَانَ الله إِن الْمُسلم لَا ينجس ".
(وَفِي رِوَايَة: إِن الْمُؤمن لَا ينجس) . مَعْنَاهُ أَن الْجنب لَا يصير كَالْعَيْنِ النَّجِسَة بِحَيْثُ لَا يجوز مُجَالَسَته ومصافحته.
وَجه الرِّوَايَة الثَّانِيَة: أَن النَّاس اخْتلفُوا فِيهِ فَخفت نَجَاسَته كَمَا خفت نَجَاسَة بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه.
1 / 49
وَجه الرِّوَايَة الثَّالِثَة: مَا روى مُسلم عَن عون بن أبي جُحَيْفَة قَالَ: " أتيت النَّبِي [ﷺ] بِمَكَّة وَهُوَ بِالْأَبْطح فِي قبَّة لَهُ حَمْرَاء من أَدَم، قَالَ: فَخرج بِلَال بوضوئه فَمن نائل وناضح، قَالَ: فَخرج النَّبِي [ﷺ] عَلَيْهِ حلَّة حَمْرَاء، كَأَنِّي أنظر إِلَى بَيَاض سَاقيه، فَتَوَضَّأ وَأذن بِلَال، وَقَالَ: فَجعلت أتتبع فَاه هَهُنَا وَهَهُنَا يَقُول يَمِينا وَشمَالًا يَقُول حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح، قَالَ: ثمَّ ركزت لَهُ عنزة، فَتقدم فصلى الظّهْر رَكْعَتَيْنِ يمر بَين يَدَيْهِ الْحمار وَالْكَلب لَا يمْنَع، ثمَّ صلى الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ لم يزل يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة ".
وَفِي رِوَايَة: " فَرَأَيْت بِلَالًا أخرج وضُوءًا فَرَأَيْت النَّاس يبتدرون ذَلِك الْوضُوء. فَمن أصَاب مِنْهُ شَيْئا تمسح بِهِ وَمن لم يصب مِنْهُ شَيْئا أَخذ من بَلل يَد صَاحبه ".
وَفِي رِوَايَة: " يمر من وَرَائِهَا الْمَرْأَة وَالْحمار ".
قلت: فَهَذَا الحَدِيث دَلِيل على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل، إِن كَانَ مَا أخرجه بِلَال
1 / 50
غسالة أَعْضَاء رَسُول الله [ﷺ]، والأغلب أَنَّهَا كَانَت غسالة أَعْضَائِهِ وَإِلَّا لما فعل بهَا الصَّحَابَة (مَا فعلوا، لِأَن) مَا يفضل من وضوئِهِ فِي الْإِنَاء مثل مَا يفضل من وضوئِهِ من الْبِئْر، فلولا كَانَ الَّذِي أخرجه بِلَال فضل وضوئِهِ لما فعلوا بِهِ مَا فعلوا، وَمَا ثَبت فِي حق النَّبِي [ﷺ] (يثبت) فِي حق غَيره إِلَّا أَن يقوم دَلِيل على تَخْصِيصه بِهِ.
وَأما مَا يدل على أَنه غير طهُور، خلافًا لمَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْله الْقَدِيم فَذَلِك ترك الْأَوَّلين بجمعه ليتوضأ بِهِ مرّة بعد أُخْرَى عِنْد فقد المَاء مَعَ قلَّة الْمِيَاه فِي الْحجاز، وَاخْتِلَافهمْ فِيمَا إِذا وجد (مَا لَا يَكْفِيهِ) من المَاء لحدثه هَل يجب اسْتِعْمَاله أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ.
(بَاب (الْوضُوء بالنبيذ»
كَانَ أَبُو حنيفَة ﵁ يَقُول: إِذا ألقِي فِي المَاء تُمَيْرَات تستحلب (عذوبة) المَاء حَتَّى صَار حلوا رَقِيقا (يسيل على الْأَعْضَاء) جَازَ الْوضُوء بِهِ عِنْد عدم المَاء محتجا فِي ذَلِك بِمَا روى:
1 / 51
التِّرْمِذِيّ عَن أبي فَزَارَة رَاشد بن كيسَان، عَن أبي زيد مولى عَمْرو بن حُرَيْث، عَن ابْن مَسْعُود ﵁ قَالَ: " سَأَلَني النَّبِي [ﷺ] . وَمن طَرِيق أبي دَاوُد أَن النَّبِي [ﷺ] قَالَ لَهُ لَيْلَة الْجِنّ: " مَا فِي إداوتك، قلت: نَبِيذ، قَالَ: تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور، قَالَ: فَتَوَضَّأ مِنْهُ ".
فَإِن قيل: قَالَ التِّرْمِذِيّ: " أَبُو زيد رجل مَجْهُول عِنْد أهل الْعلم ".
قيل لَهُ: قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ: أَبُو زيد مولى عَمْرو بن حُرَيْث
1 / 52
روى عَنهُ رَاشد بن كيسَان وَأَبُو روق وَهَذَا يُخرجهُ عَن حد الْجَهَالَة، وَأما اسْمه فَلم يعرف، فَيجوز أَن يكون أَرَادَ التِّرْمِذِيّ أَنه مَجْهُول الِاسْم.
فَإِن قيل: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أَبُو فَزَارَة فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود رجل مَجْهُول، وَذكر البُخَارِيّ أَبَا فَزَارَة الْعَبْسِي رَاشد بن كيسَان، وَأَبا فَزَارَة الْعَبْسِي غير مُسَمّى، فجعلهما اثْنَيْنِ.
قيل لَهُ: قد صرح التِّرْمِذِيّ بِأَنَّهُ رَاشد بن كيسَان، وَأخْبر أَن أَبَا زيد رجل مَجْهُول، فَلَو كَانَ أَبُو فَزَارَة مَجْهُولا لذكره، وَقد وَافق تَصْرِيح التِّرْمِذِيّ بِالتَّسْمِيَةِ تَصْرِيح البُخَارِيّ، فَثَبت أَنه رَاشد بن كيسَان الْعَبْسِي (الْكُوفِي وانتفى أَن يكون غَيره وَرَاشِد بن كيسَان (الْعَبْسِي» / (ثِقَة) روى عَنهُ الثَّوْريّ وجعفر بن برْقَان وَجَرِير بن حَازِم وَإِسْرَائِيل وَشريك. هَكَذَا ذكر ابْن الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ.
فَإِن قيل: " صَحَّ عَن عبد الله أَنه قَالَ (لم) أكن مَعَ النَّبِي [ﷺ] لَيْلَة الْجِنّ ".
قيل لَهُ: يجوز أَن يكون صَحبه فِي بعض اللَّيْلَة واستوقفه فِي الْبَاقِي.
1 / 53
وروى الدَّارَقُطْنِيّ، عَن عَليّ بن أبي طَالب ﵁ أَنه قَالَ: " لَا بَأْس بِالْوضُوءِ بالنبيذ ".
وَعنهُ، عَن (يحيى بن أبي كثير)، عَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: " النَّبِيذ وضوء من لم يجد غَيره " فَهَذِهِ الْمَسْأَلَة قد اسْتدلَّ فِيهَا بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي قد أَكثر النَّاس الطعْن فِيهِ وَترك الْقيَاس من أَجله وَوَافَقَهُ على ذَلِك سُفْيَان الثَّوْريّ. هَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيّ وَوَافَقَهُ أَيْضا عِكْرِمَة وسبقهم بِهَذَا القَوْل عَليّ بن أبي طَالب ﵁، فَمن أتبع لحَدِيث رَسُول الله [ﷺ] من هَذَا الإِمَام، ثمَّ إِنَّه رَجَعَ عَن هَذَا القَوْل إِلَى مَا رَآهُ الْأَكْثَرُونَ، وَهَذَا دَلِيل على أَنه كَانَ ﵁ لَا يَقُول قولا بِرَأْي نَفسه بل يتبع الدَّلِيل حَيْثُ كَانَ.
1 / 54
(بَاب إِذا اسْتعْملت الْمَرْأَة من إِنَاء (وخلت) بِهِ جَازَ للرجل اسْتِعْمَاله)
أَبُو دَاوُد عَن أم حبية الجهنية قَالَت: " اخْتلفت يَدي وَيَد رَسُول الله [ﷺ] فِي الْوضُوء من إِنَاء وَاحِد ".
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد عَن حميد الْحِمْيَرِي، قَالَ: لقِيت رجلا صحب النَّبِي [ﷺ] أَربع سِنِين كَمَا صَحبه أَبُو هُرَيْرَة ﵁ قَالَ: " نهى رَسُول الله [ﷺ] أَن تَغْتَسِل الْمَرْأَة بِفضل الرجل، أَو يغْتَسل الرجل بِفضل الْمَرْأَة ". زَاد مُسَدّد: " وليغترفا جَمِيعًا ".
قيل لَهُ: فقد روى التِّرْمِذِيّ، عَن ابْن عَبَّاس ﵄ قَالَ: " اغْتسل بعض أَزوَاج النَّبِي [ﷺ] فِي جَفْنَة فَأَرَادَ رَسُول الله [ﷺ] أَن يتَوَضَّأ مِنْهُ، فَقَالَت:
1 / 55
يَا رَسُول الله إِنِّي كنت جنبا، قَالَ: " إِن المَاء لَا يجنب ". (" قَالَ أَبُو عِيسَى ":) هَذَا حَدِيث (حسن) صَحِيح.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِشَارَة إِلَى تقدم حَدِيث النَّهْي، لِأَنَّهَا قَالَت إِنِّي كنت جنبا، أَي فَلَا تستعمله، وَهَذَا إِنَّمَا يكون بعد علمهَا بِأَن الْمَرْأَة إِذا اسْتعْملت من مَاء وَبَقِي مِنْهُ شَيْء أَنه لَا يجوز للرجل اسْتِعْمَاله، يُؤَيّد هَذَا حَدِيث بَرِيرَة، قَالَت عَائِشَة ﵂: " وَدخل عَلَيْهَا رَسُول الله [ﷺ] والبرمة تَفُور بِلَحْم فَقرب إِلَيْهِ خبز وأدم من أَدَم الْبَيْت، فَقَالَ: ألم أر برمة فِيهَا لحم؟ قَالُوا: بلَى يَا رَسُول الله وَلَكِن ذَاك لحم تصدق بِهِ على بَرِيرَة، وَأَنت لَا تَأْكُل الصَّدَقَة، فَقَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة وَهُوَ لنا مِنْهَا هَدِيَّة ".
فالمفهوم من هَذَا كالمفهوم من حَدِيث ابْن عَبَّاس ﵄.
(ذكر مَا فِي الحَدِيث من الْغَرِيب:)
قَوْله: " إِن المَاء لَا يجنب "، الْجَنَابَة: الْبعد، فَمَعْنَى الحَدِيث أَن المَاء لَا يصير بِهَذَا / الْفِعْل إِلَى حَالَة يجْتَنب فَلَا يسْتَعْمل.
1 / 56