فحملته على هجين كان معي، فقال: يا أبا قدامة، اقرضني ثلاثة أسهم، فقلت: هذا وقت قرض؟. فما زال يلح علي حتى قلت: بشرط، إن من الله عليك بالشهادة، أكون في شفاعتك، قال: نعم، فأعطيته ثلاثة أسهم، فوضع سهما في قوسه، وقال: السلام عليك، فأنا قدامه، ورمى به فقتل روميا، ثم رمى بالآخر، وقال: السلام عليك، فأنا قدامه، فقتل روميا، ثم رمى بالآخر، وقال: السلام عليك، سلام مودع، فجاءه سهم، فوقع بين عينيه، فوقع رأسه على قربوس سرجه، فتقدمت إليه، وقلت: لا تنسها، فقال: نعم، ولكن لي إليك حاجة، إذا دخلت المدينة، فائت والدتي، وسلم خرجي إليها، وأخبرها، فهي التي أعطتك شعرها، لتقيد به فرسك، وسلم عليها، فهي العام الأول أصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي، ثم مات، فحفرت له ودفنتهه، فلما هممت بالإنصراف عن قبره، قذفته الأرض، فألقته على ظهرها، فقال أصحابه: إنه غلام غر، ولعله خرج بغير إذن أمه، فقلت: إن الأرض لتقبل من هو شر من هذا، فقمت فصليت ركعتين، ودعوت الله عز وجل، فسمعت صوتا يقول: يا أبا قدامة، أترك ولي الله، فما رحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته.
فلم أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته، فلما قرعت الباب، خرجت أخته إلي، فلما رأتني عادت، وقالت: يا أماه، هذا أبو قدامة، وليس معه أخي، وقد أصبنا العام الأول بأبي، وفي هذا العام بأخي.
فخرجت أمه فقالت: أمعزيا أم مهنئا؟ فقلت: ما معنى هذا؟ فقالت: إن كان قد مات فعزني، وإن كان استشهد فهنئني.
فقلت: لا، بل مات شهيدا، فقالت: له علامة، فهل رأيتها؟ قلت: نعم، لم تقبله الأرض، ونزلت الطيور، فأكلت لحمه، وتركت عظامه، فدفنتها، فقالت: الحمد لله، فسلمت إليها الخرج ففتحته، فأخرجت منه مسحا وغلا من حديد، وقالت: إنه كان إذا جنه الليل، لبس هذا المسح، وغل نفسه بهذا الغل، وناجى مولاه، وقال في مناجاته: "إلهي، أحشرني من حواصل الطير"، فاستجاب الله سبحانه دعاءه. رحمنا الله وإياه.
وفي ذكر الموت، ونقص الأمل أعظم مصطبر ومزدجر، وأحسن معتبر وأرجى مدخر.
قال الله [تعالى] (¬1): {كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} (¬2).
وقال تعالى: {كل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (¬3).
وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت، ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} (¬4).
صفحة ٣٩