محبة الرسول بين الاتباع والابتداع
الناشر
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إدارة الطبع والترجمة
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤١٤هـ
مكان النشر
الرياض
تصانيف
[مقدمة]
محبة الرسول
بين الاتباع والابتداع
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين.
أحمده حمد الشاكرين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. كلمة حق قامت عليها السماوات والأرضين وبها أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين. ولأجلها انقسم الناس إلى مؤمنين وكافرين. فمن سبقت له السعادة بالإيمان كان من الناجين. ومن تنكب عنها واتبع هواه كان من الهالكين. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، المبعوث بالدين القويم، والصراط المستقيم. أرسله الله رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين. فلم يزل ﷺ يجتهد في تبليغ الدين، وهدى العالمين، وجهاد الكفار والمنافقين. حتى طلعت شمس الإيمان، وأدبر ليل الكفر والبهتان، وعز جند الرحمن، وذل حزب الشيطان، وظهر نور الفرقان، فبلغت دعوته القاصي والداني، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما مقرونا بالرضوان.
أما بعد، فإن الله افترض على العباد طاعة نبيه ﷺ ومحبته وتوقيره والقيام بحقوقه. وسد الطريق إلى جنته فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره.
فقام المسلمون بأداء ما افترضه الله عليهم من محبة نبيه وتوقيره وإكرامه وبره واتباعه وطاعته حق قيام، وظهر من حبهم لرسول الله ﷺ ما جعلهم يفدونه بكل عزيز وغال، ويؤثرونه على الأهل والأوطان والأموال، حتى باعوا أنفسهم وأموالهم لرب العالمين. نصرة لدينه، ودفاعا عن نبيه ﷺ، ونشرا لهذا الدين في العالمين، فرضي الله عنهم أجمعين.
حتى إذا دب الضعف في هذه الأمة، أدركتها سنة الله في الأمم، فظهر فيها
1 / 3
التفرق والاختلاف، والعداوة والبغضاء، وتفرق أهل القبلة على فرق شتى وطرائق قددا، واتخذ النفاق فرصته السانحة في توسيع شقة الخلاف، ورفعت الزندقة رأسها، ودخلت معترك الفرق بقديم حقدها، وكوامن غيظها. كيدا لهذا الدين الذي قوض أركانها، وأذهب من الأرض سلطانها. استمال هؤلاء الزنادقة الأغرار بالعقائد الباطلة، واستغلوا الفتن التي وقعت بتدبيرهم في تزيين الكفر وإلباسه ثوب الغلو في علي ﵁ وآل البيت من ذريته. حتى خرجوا بأكثر الناس من الإسلام إلى مذاهبهم الباطلة.
وتوارث أخلافهم سنتهم في الغلو. فغلوا في رسول الله ﷺ حتى أخرجوه من نطاق البشرية إلى مرتبة الألوهية، ونسبوا إلى الله ورسوله ما لا يليق من صنوف الكفر والبهتان، الهادمة لما جاء به الرسول ﷺ من أصول الإسلام والإيمان. وزعموا أنهم بذلك يريدون إظهار حبه وتعظيمه، وأوهموا المخدوعين بهم أنهم أولى الناس بالنبي ﷺ، وأكثرهم حبا له. وحاولوا إخفاء زندقتهم بدعاوي الزهد والتنسك والتصوف. فمال إليهم الأغرار، وظنوا أنهم من الأبرار الأخيار، وأنهم أحباب النبي المصطفى المختار.
ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. فقيض سبحانه من عباده المخلصين، وحزبه المفلحين من أزاح الغشاوة عن الأبصار، وبين للناس زيف الزنادقة الأشرار، وأنهم لا يريدون إلا هدم الدين وتغيير سنة خاتم المرسلين. فتتبعوا أقوالهم وأحوالهم، وكشفوا عن وجوه زندقتهم. حتى غدا أمرهم لأولي الأبصار مكشوفا واضحا، وتبين لأولي النهى من كان لله ورسوله محبا صادقا، ومن كان في دعوى المحبة دجالا كاذبا، ولإفساد دين المسلمين ساعيا.
ولما كانت محبة رسول الله ﷺ هي دعوى الفريقين ومتنازع الحزبين. أردت أن أجلي في هذا البحث عن وجه الحقيقة كاشفا عن الصواب، مستعينا بالعزيز الوهاب، ورغبت في تحرير محل النزاع، فأسميته (محبة الرسول ﷺ بين الاتباع والابتداع) .
1 / 4
ووقع الاختيار على هذا الموضوع لأسباب منها:
- كون محبة الرسول ﷺ ركنا أصيلا من أركان الإيمان، أصابه ما أصاب الإيمان من ضعف لدى بعض المسلمين، فأردت أن أبين مكانة المحبة من الإيمان.
- أن المحبة أمر قد يستتر وراء الدعاوي والمزاعم فأردت أن أبين الشواهد الصادقة لهذه المحبة والأمور الفارقة بين الصادق فيها والكاذب. والتي من أهمها الاتباع.
ظن كثير من المسلمين- تأثرا بغلاة الصوفية- أن من لوازم محبة الرسول ﷺ الغلو فيه فأردت أن أبين أن المحبة شيء مختلف تماما عن الغلو. فالأول فرض عين، والثاني ضلال ومين.
- اتهام كثير من الغلاة عامة المسلمين بالجفاء للرسول ﷺ ما لم يوافقوهم في غلوهم الذي يسمونه محبة. فأردت أن أبين وجه الصواب في المسألة.
- أن حال كثير من الغلاة مخالف لأصول الشرع، مع ادعائهم أنهم أحب الأمة للرسول ﷺ، فأردت أن أبين حقيقة أمرهم على ضوء الكتاب والسنة.
- ما حدث في الأمة بسبب الغلو في الرسول ﷺ من صنوف البدع التي شوهت معالم الدين عند أكثر المسلمين، فأردت أن أبين آثار الغلو على الدين اعتقادا، وتعبدا وسلوكا.
وقد رسمت خطة بحثي هذا على النحو التالي:
التمهيد: ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: وسأتحدث فيه عن معنى النبوة والرسالة بإيجاز.
المبحث الثاني: عن بشرية الرسول ﷺ وسأبين أن كمال الرسول أن يكون بشرا رسولا.
1 / 5
المبحث الثالث: النبوة اصطفاء إلهي، وسأتحدث فيه عن بعض مظاهر اصطفاء الله لنبيه ﷺ بإيجاز.
الباب الأول (المحبة والاتباع) الفصل الأول: محبة الرسول ﷺ.
يحتوي هذا الفصل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: مفهوم المحبة، وسأتحدث فيه عن معنى المحبة في اللغة عموما ومعناها في الشرع على وجه الخصوص.
المبحث الثاني: وجوب محبة الرسول ﷺ، وسأتحدث فيه عن حكم محبة الرسول ﷺ في الشرع، ومكانتها من الإيمان.
المبحث الثالث: دواعي محبة الرسول ﷺ وأسباب زيادتها، وسأتكلم فيه عن الدواعي والدوافع التي تدفع المسلم إلى محبة الرسول ﷺ وأسباب زيادة هذه المحبة.
المبحث الرابع: مظاهر محبة الرسول ﷺ وسأبين فيه العلامات الواضحة والشواهد الصادقة التي من اتصف بها كان صادقا في حبه لرسول الله ﷺ، وسأتبعه ببيان آثار هذه المحبة على سلوك المسلم وأفعاله.
الفصل الثاني: الاتباع:
يتكون هذا الفصل من ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مفهوم الاتباع وسأبين فيه معنى الاتباع لرسول الله ﷺ في اللغة والشرع.
المبحث الثاني: وجوب طاعة الرسول ﷺ، واتباعه، وسيكون الكلام فيه أدلة هذا الوجوب من القرآن والسنة.
المبحث الثالث: مظاهر الاتباع، وسأبين فيه العلامات الواضحة التي من اتصف بها كان متبعا لرسول الله ﷺ.
1 / 6
الباب الثاني (الغلو والابتداع)
يشتمل هذا الباب على فصلين: الفصل الأول: الغلو في الرسول ﷺ ويحتوي هذا الفصل على ستة مباحث:
المبحث الأول: مفهوم الغلو، وسيكون الحديث فيه عن معنى الغلو في اللغة والشرع، وأنواع الغلو والأسباب التي أدت إلى ظهوره عند المسلمين.
المبحث الثاني: الغلو عند اليهود والنصارى.
على أساس أنهم ابتلوا بداء الغلو في أنبيائهم، وأن من غلا من المسلمين فهو متشبه بهم، آخذ بسنتهم التي حذرنا الله ورسوله من اتباعها.
المبحث الثالث: الغلو في الرسول ﷺ عند الشيعة باعتبار أنهم أول من فتح باب الغلو في الأشخاص في هذه الأمة بغلوهم في علي ﵁ وآل البيت من ذريته.
المبحث الرابع: الغلو في الرسول ﷺ عند الصوفية وسيكون الكلام فيه عن مطلبين:
المطلب الأول: الغلو عند الحلاج وذلك باعتباره أول صوفي اشتهر عنه الغلو في الرسول ﷺ كغلو النصارى في عيسى ﵇ منطلقا من مذهبه في الحلول.
المطلب الثاني: الغلو عند ابن عربي باعتباره ممثلا لمذهب وحدة الوجود وسأتحدث في هذا المطلب عن مذهب ابن عربي في الحقيقة المحمدية التي كان لها أكبر الأثر في انحراف الصوفية من بعده في اعتقادهم في الرسول ﷺ إذ جعلوه مساويا لله ﷿ في ذاته وصفاته تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
البحث الخامس: آثار الغلو في الرسول ﷺ، على الاعتقاد والأعمال، وسأبين
1 / 7
فيه كيف أن الغلو في الرسول ﷺ كان سببا في إفساد العقيدة وتشويه معالم الدين.
المبحث السادس: حكم الإسلام في الغلو. وسأبين فيه حكم الشرع في الغلو في الرسول ﷺ، وحكم من اعتقد مقالة الغلاة في الرسول ﷺ.
الفصل الثاني: الابتداع.
يتكون هذا الفصل من ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف البدعة وبيان حكمها وسأتعرض فيه بشيء من التفصيل إلى أقوال العلماء في تعريف البدعة، وهل تنقسم إلى حسنة وسيئة أم لا؟ ثم أتبعه بتحرير محل النزاع بين الفريقين في هذا الموضوع.
المبحث الثاني: البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول ﷺ وسأتحدث فيه عن نماذج من هذه البدع على سبيل المثال لا على سبيل الحصر والإحصاء، فمن هذه البدع اعتقاد الصوفية بحياة النبي ﷺ حياة تامة لها كل خصائص الأحياء وبنوا على ذلك زعمهم بأنهم يرونه يقظة لا مناما، ويجتمعون به، وسأبين ما انبنى على هذه البدعة من بدع أخرى ومن هذه البدع التوسل غير المشروع بالنبي ﷺ ثم البدع المتعلقة بزيارة قبره ﷺ، ثم بدعة المولد ثم أعرض نماذج من الصيغ المبتدعة في الصلاة على النبي ﷺ.
المبحث الثالث: آثار الابتداع.
وسأتحدث فيه عن آثار البدعة الوخيمة على المبتدع في نفسه، وعلى الدين، وعلى المجتمع المسلم وأتبعه ببيان موجز عن كيفية مقاومة البدع.
1 / 8
الخاتمة: وسأتحدث فيها عن أهم النتائج التي أتوصل إليها من خلال بحثي في هذا الموضوع.
وقد رسمت لنفسي منهجا في معالجة هذا الموضوع على النحو التالي:
١ - أن أقوم بجمع مادة هذا البحث من مظانه المعتبرة حسبما يتيسر لي من مراجع ومصادر.
٢ - سأقوم بعزو الآيات القرآنية التي ترد في أثناء البحث إلى مواضعها من سور القرآن.
٣ - تخريج ما يرد من أحاديث في أثناء البحث.
٤ - الرجوع إلى معاجم اللغة في التعريفات اللغوية.
٥ - سأترجم لمن يرد ذكره في أثناء البحث من الأعلام غير المشهورين ترجمة موجزة.
٦ - سأقوم بعزو الأقوال إلى أصحابها، أو إلى المصدر الذي اقتبسته منه.
1 / 9
[المبحث الأول تعريف النبوة والرسالة لغة وشرعا]
تمهيد وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول: تعريف النبوة والرسالة.
المبحث الثاني: بشرية الرسول ﷺ.
المبحث الثالث: النبوة اصطفاء إلهي.
1 / 11
المبحث الأول
تعريف النبوة والرسالة لغة وشرعا النبوة: النبوة في اللغة: مشتقة من النبأ بمعنى الخبر.
قال الله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الحجر: ٤٩] (١) وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم: ٣] (٢) .
جاء في لسان العرب:
(النبأ: الخبر. . . والنبيء المخبر عن الله ﷿. . . لأنه أنبأ عنه، وهو فعيل بمعنى فاعل.
قال ابن بري (٣) .
صوابه أن يقول: فعيل بمعنى مفعل. مثل نذير بمعنى منذر وأليم بمعنى مؤلم.
. . . وقال الفراء (٤) النبي: هو من أنبأ عن الله فترك همزه.
_________
(١) سورة الحجر، آية (٤٩) .
(٢) سورة التحريم، آية (٣) .
(٣) هو عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي المصري (٤٩٩- ٥٨٢ هـ) . نحوي لغوي، من مصنفاته: اللباب في الرد على ابن الخشاب، وحواش على الصحاح لم يكملها.
انظر: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة. جلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط١، مطبعة عيسى الحلبي. مصر، ١٣٨٤ هـ- ٢ / ٣٤.
(٤) هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي المعروف بالفراء (١٤٠- ٢٠٧ هـ) .
كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي.
له مصنفات عدة منها: معاني القرآن، اللغات والمصادر في القرآن، النوادر.
انظر: بغية الرعاة، ٢ / ٣٣٣.
1 / 13
قال: وأن أخذ من النبوة والنباوة وهي الارتفاع عن الأرض- أي أنه شرف على سائر الخلق- فأصله غير الهمز) (١) . وعلى ذلك فالنبوة في الأصل مشتقة من النبأ وأصلها الهمز لكن لما كثر استعمالها خفف بإسقاط الهمز، أما اشتقاقه من النبوة والنباوة فهو ضعيف من ناحية اللغة.
قال ابن تيمية:
(وهو " أي لفظ النبي " من النبأ، وأصله الهمزة وقد قريء به، وهي قراءة نافع يقرأ النبيء، لكن لما كثر استعماله لينت همزته كما فعل مثل ذلك في الذرية، وفي البرية، وقد قيل هو من النبوة، وهي العلو فمعنى النبي المعلى الرفيع المنزلة، والتحقيق أن هذا المعنى داخل في الأول فمن أنبأه الله وجعله منبئا عنه، فلا يكون إلا رفيع القدر عليا، وأما لفظ العلو والرفعة فلا يدل على خصوص النبوة إذ كان هذا يوصف به من ليس بنبي، بل يوصف بأنه الأعلى كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [آل عمران: ١٣٩] (٢) .
وقراءة الهمزة قاطعة بأنه مهموز. . . . وأيضا فإن تصريفه أنبأ ونبأ ينبئ وينبئ بالهمزة، ولم يستعمل فيه نبا ينبو، وإنما يقال هذا ينبو عنه، والماء ينبو عن القدم إذا كان يجفو عنها، ويقال النبوة، وفي فلان نبوة عنا أي مجانبة. فيجب القطع بأن النبي مأخوذ من الإنباء لا من النبوة) (٣) .
الرسالة: الرسول في اللغة مأخوذ من الإرسال بمعنى التوجيه، أو من الرسل بمعنى التتابع أخذا من قولهم: رسل اللبن إذا تتابع دره.
_________
(١) لسان العرب، جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري، ط دار صادر بيروت، مادة نبأ، ١ / ١٦٢- ١٦٣.
(٢) سورة آل عمران، (١٣٩) .
(٣) النبوات، لابن تيمية، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٨٥، ص٣٣٦ - ٣٣٧.
1 / 14
جاء في لسان العرب:
(. . . والإرسال: التوجيه، وقد أرسل إليه، والاسم الرسالة والرسالة والرسول. . . والرسول بمعنى الرسالة يؤنث ويذكر، والرسول المرسل. . . والرسول: معناه في اللغة: هو الذي يتابع أخبار من بعثه، أخذا من قولهم: جاءت الإبل رسلا أي متتابعة. . . . وسمى الرسول رسولا لأنه ذو رسول أي ذو رسالة والرسول اسم من أرسلت وكذلك الرسالة) (١) . وعلى ذلك فالرسول في اللغة إما أن يكون مأخوذا من الإرسال بمعنى التوجيه وهو ظاهر من حيث المعنى وإما أن يكون مأخوذا من التتابع فيكون الرسول هو من تتابع عليه الوحي (٢) .
هذا بالنسبة للمعنى اللغوي لمدلول النبي والرسول، أما في الاصطلاح فللعلماء في تحديد الفرق بين النبي والرسول، وتحديد مسمى كل منهما كلام كثير لا يسلم من نقد. لكن الأمر الراجح عند كثير من أهل العلم أن هناك فرقا بين مسمى النبي ومسمى الرسول وإن اختلفوا في تحديد المراد بكل منهما. وأيضا فإن النبوة أعم من الرسالة فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا (٣) والذي يظهر والله أعلم أن النبي: هو من نبأه الله بشرع سابق ينذر به أهل ذلك الشرع. وقد يؤمر بتبليغ بعض الأوامر في قضية معينة، أو الوصايا والمواعظ وذلك كأنبياء بني إسرائيل إذ كانوا على شريعة التوراة ولم يأت أحد منهم بشرع جديد ناسخ للتوراة، فتكون منزلته حينئذ بمنزلة المجدد لتعاليم الرسل السابقين (٤) .
أما الرسول فهو من بعثه الله بشرع وأمره بتبليغه إلى من خالفوا أوامره. وسواء كان هذا الشرع جديدا في نفسه أو بالنسبة لمن بعث إليهم وربما أتى بنسخ بعض أحكام شريعة من قبله (٥) .
_________
(١) لسان العرب، مادة رسل ١١ / ٢٨٣ - ٢٨٤.
(٢) انظر أصول الدين لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، ط٣، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤٠١هـ، ص١٥٤.
(٣) انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، ط٦، المكتب الإسلامي، بيروت، ١٤٠٠هـ، ص١٦٧.
(٤) انظر النبوات، ص٢٢٥- ٢٥٧.
(٥) انظر أصول الدين، ص١٥٤.
1 / 15
[المبحث الثاني بشرية الرسول ﷺ]
المبحث الثاني
بشرية الرسول ﷺ لقد شاء الله العليم الحكيم أن يكون رسله إلى الناس بشرا من جنس المرسل إليهم وبلسانهم ليبينوا لهم شرع ربهم، ولتقوم بهم الحجة على الناس، وتنقطع عنهم المعاذير، ويسهل عليهم اتباع رسلهم، والفهم عنهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤] (١) وقال تعالى: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [إبراهيم: ١١] (٢) .
ويوضح الله بعض جوانب هذه البشرية فيقول سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٢٠] (٣) الآية. ولم يكن رسول الله ﷺ بدعا من الرسل بل كان بشرا كغيره من الأنبياء والرسل السابقين عليه.
قال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: ٩] (٤) وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف: ١١٠] (٥) وهذا أبلغ تأكيد من الله على أن الرسول ﷺ بشر مثلنا له كل خصائص البشر وصفاتهم وهو مع ذلك مفضل بالوحي والرسالة.
_________
(١) سورة إبراهيم، آية (٤) .
(٢) سورة إبراهيم، آية (١١) .
(٣) سورة الفرقان، آية (٢٠) .
(٤) سورة الأحقاف، آية (٩) .
(٥) سورة الكهف، آية (١١٠)، وسورة فصلت آية (٦) .
1 / 16
والآيات القرآنية تثبت بشرية الرسول ﷺ في مواقف كثيرة. وتوضح أنه بشر لم يخرج عن نطاق البشرية، وأن ما أتى به من وحي أو جرى على يديه من آيات فإنما هو بقدرة الله وحده، وأن الرسول لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا أن يشاء الله. قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [العنكبوت: ٥٠] (١) وقال تعالى ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٨] (٢) . وكما أن الرسول لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فهو من باب أولى لا يملك لغيره الضر والنفع أو الهداية والصلاح، بل كل ذلك بيد الله وحده.
قال تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ - وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ١٢٨ - ١٢٩] (٣) . وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا﴾ [الجن: ٢١] (٤) وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: ٥٦] (٥) .
ولما طالب كفار قريش الرسول ﷺ بمطالب تعجيزية ذريعة لهم للتكذيب والكفر، كان رد الله تعالى عليهم هو التأكيد على بشرية الرسول ﷺ قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا - أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا - أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا - أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٠ - ٩٣] (٦) .
_________
(١) سورة العنكبوت، آية (٥٠) .
(٢) سورة الأعراف، آية (١٨٨) .
(٣) سورة آل عمران، آية (١٢٨-١٢٩) .
(٤) سورة الجن، آية (٢١) .
(٥) سورة القصص، آية (٥٦) .
(٦) سورة الإسراء، آية (٩٠-٩٣) .
1 / 17
وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٣] تأكيد على أن الرسول بشر يقف عند حدود بشريته، ولا يأتي بشيء من عنده.
وحياة رسول الله ﷺ وسيرته توضح هذا الأمر أتم توضيح فقد عاش ﷺ بشرا تجري عليه أعراض البشرية طيلة حياته منذ أن ولد إلى أن مات فأكل وشرب، ومشى في الأسواق، وباع واشترى، وتزوج وأنجب، وحارب، وسالم، وغضب، ورضي، وفرح وحزن، وأدركه المرض فمرض، ومات كما يموت سائر البشر. ﷺ.
وكل من عايش رسول الله ﷺ أو تتبع سيرته أدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك. والرسول ﷺ بأقواله وأفعاله يؤكد هذا الأمر فيقول فيما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن مسعود وفيه (. . . . «إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون» (١) .
وقال فيما رواه البخاري عن أم سلمة ﵂: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» (٢) ففي الحديث الأول يبين رسول الله ﷺ أنه يتذكر وينسى أحيانا؟ هو شأن البشر جميعا، وفي الثاني يؤكد على عدم علمه للغيب بمقتضى طبيعته البشرية إلا أن يطلعه الله على ما شاء من الغيب كما قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: ٢٦ - ٢٧] (٣) .
_________
(١) صحيح مسلم، تحقيق وتصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، ١٤٠٣هـ، ١٩٨٣م.
كتاب المساجد. باب السهو في الصلاة والسجود له، ١ / ٤٠٢.
(٢) صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي.
كتاب الحيل، باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت، ٩ / ٣٢.
ومسلم كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، ٣ / ١٣٣٧.
(٣) سورة الجن، آية (٢٦-٢٧) .
1 / 18
ومع كون الرسول ﷺ بشرا، إلا أن الله ﷿ هيأه تهيئة خاصة تتناسب مع هذا الأمر العظيم الذي اصطفى له. فكمله في الخلق والخلق، فكان رسول الله ﷺ أكمل البشر في كافة الجوانب البشرية، كما كان أكملهم عبودية لربه وقياما بحقه. فكمال الرسول ﷺ في عبوديته التامة لربه ﷾.
لأجل هذا وصفه الله بالعبودية في أكمل مقاماته وأرفع درجاته ﷺ، فقال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: ١] (١) وقال تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: ١٠] (٢) وقال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ [الكهف: ١] (٣) وقال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن: ١٩] (٤) .
فمنزلة العبودية لله هي أرقى درجات الكمال البشري، لأن الله إنما خلق الخلق لعبادته، وأكمل الخلق قياما بهذا الأمر أتمهم عبودية له، ولا يصدق هذا في المقام الأول إلا على الأنبياء والرسل، وأكملهم محمد ﷺ الذي أكمل الله له مقام العبودية. فلم يختر عليه ما سواه لعلمه بعظم هذه المنزلة عند ربه. فقام رسول الله ﷺ بحق هذه العبودية أتم قيام، فدعا الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وأخرجهم من العبودية لأهوائهم وشهواتهم إلى العبودية لله رب العالمين، كما صان مقام عبوديته لربه من كل ما يفسده أو يضعفه.
وأعلم أمته أن منزلته الحقيقية هي العبودية والرسالة فقال فيما رواه الإمام أحمد بسنده عن أنس وفيه (. . . «أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله ﷿» (٥) .
_________
(١) سورة الإسراء، آية (١) .
(٢) سورة النجم، آية (١٠) .
(٣) سورة الكهف، آية (١) .
(٤) سورة الجن، آية (١٩) .
(٥) مسند الإمام أحمد بن حنبل. المكتب الإسلامي ودار صادر، بيروت ١ / ١٥٣، ٢٤١، والحديث صحح إسناده ابن عبد الهادي.
انظر الصارم المنكي في الرد على السبكي. محمد بن أحمد عبد الهادي ط١، دار الكتب العلمية، بيروت، ص٢٨٨.
1 / 19
وأخرج البخاري بسنده عن عمر ﵁ أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله» (١) .
فاستحق رسول الله ﷺ أن يكون العبد الأول لربه، ولذلك خصه الله من عباده المرسلين بما لم يعطه أحدا غيره، فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع، وأول من تفتح له أبواب الجنة.
ومع وضوح بشريته ﷺ في كافة أحواله، إلا أن طوائف من المنتسبين إلى الإسلام خالفوا إجماع الأمة فخرجوا بالرسول ﷺ عن نطاق البشرية وغلوا فيه فوصفوه بصفات الله ﷾.
وسيتضح لنا ذلك في مباحث الغلو في الرسول ﷺ.
_________
(١) صحيح البخاري. كتاب الأنبياء. باب قول الله تعالى: " واذكر في الكتاب مريم " ٤ / ٢٠٤.
1 / 20
[المبحث الثالث النبوة اصطفاء إلهي]
المبحث الثالث
النبوة اصطفاء إلهي لقد جرت سنة الله في خلقه أن يصطفى بعض عباده لمهمة النبوة والرسالة كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: ٧٥] (١) وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٣٣] (٢) وقال تعالى: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف: ١٤٤] (٣) .
وهذا الاصطفاء والاختيار منة إلهية امتن الله بها على الأنبياء والمرسلين فلم يصلوا إليها بكسب ولا جهد، ولا كانت ثمرة لعمل أو رياضة للنفس قاموا بها كما يزعم الضلال من الفلاسفة. حيث ذهبوا إلى أن النبوة مكتسبة وأن من هذب نفسه بالخلوة والعبادة وأخلى نفسه عن الشواغل العائقة عن المشاهدة، وراض نفسه، وهذبها، تهيأ للنبوة.
وبناء على ذلك قالوا إن النبي هو من اجتمعت فيه ثلاث خصال:
- أن يكون له اطلاع على المغيبات لصفاء جوهره وشدة اتصاله بالروحانيات العالية من غير سابقة تعلم ولا تعليم.
أن تظهر على يديه خوارق العادات بحيث يؤثر بنفسه في قوى العالم المادي.
مشاهدة الملائكة لا أرواحها لما عنده من قوة التخيل، ويسمع كلامهم ووحيهم إليه.
_________
(١) سورة الحج، آية (٧٥) .
(٢) سورة آل عمران، آية (٣٣) .
(٣) سورة الأعراف، آية (١٤٤) .
1 / 21
وبالتالي فإن مرجع الوحي عندهم إلى قوة الخيال لدى النبي لا أن الوحى ينزل عليه حقيقة، فالقرآن إذا من عند النبي (١) .
وقد كذبهم الله بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: ٣٧ - ٣٩] (٢) .
فالنبوة والرسالة محض فضل من الله يختص به من شاء من عباده، وهو سبحانه أعلم بمواقع فضله، ومحال رضاه، وأعلم بمن يصلح لهذا الشأن، فهو سبحانه صاحب الخلق والتدبير، والاختيار والاصطفاء،؟ قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: ٦٨] (٣) وقال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] (٤) .
ومع كون النبوة منحة إلهية. إلا أن الله لا يختار لها إلا أناسا خصهم وميزهم بخصائص ومميزات ليست موجودة في سائر البشر. فالرسل أكمل البشر خلقا وخلقا، وأرجحهم عقلا، وأوفرهم ذكاء، والله رهم قلبا. وهذا هو شأن الرسل أجمعين. والرسول ﷺ حينما اصطفاه الله لمهمة الرسالة الخاتمة، خصه بخصائص ليست موجودة في غيره، وهيأه تهيأة خاصة تتناصب مع هذه المهمة الجليلة.
وظهرت آثار اصطفاء الله له في جوانب كثيرة منها:
_________
(١) انظر لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، للشيخ محمد بن أحمد السفاريني، مطابع الأصفهاني، جدة، ١٣٨٢هـ، ٢ / ٢٦٨.
(٢) سورة يونس، آية (٣٧-٣٩) .
(٣) سورة القصص، آية (٦٨) .
(٤) سورة الأنعام، آية (١٢٤) .
1 / 22
١ - طهارة نسبه: فلم ينل نسبه الطاهر شيء من سفاح الجاهلية. فكان من سلالة آباء كرام ليس فيهم ما يشينهم أو يعيبهم. بل كانوا سادات قومهم في النسب والشرف والمكانة.
وفي الحديث الذي أخرجه مسلم بسنده عن واثلة بن الأسقع ما يؤكد ذلك قال: قال رسول الله ﷺ: «(إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بنى هاشم» (١) .
٢ - تعهد الله برعايته وحفظه: وذلك أنه نشأ على الفطرة الزكية فلم يتدنس بشيء من أدران الجاهلية لأن الله حفظه منذ صغره، فحفظ قلبه من تغيير الفطرة ووصول الشيطان إليه أخرج الإمام مسلم بسنده عن أنس بن مالك «أن رسول الله ﷺ أتاه جبريل ﷺ وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة. فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده مكانه» (٢) .
فهذا الحديث يبين أن الله طهر قلبه ﷺ منذ صغره وحفظه من وصول الشيطان إليه وذلك ليعده فيما بعد لمهمة النبوة والرسالة. فنشأ رسول الله ﷺ على الأخلاق الزاكية والخصال الحميدة، والفطرة النقية السليمة، فبغضت إليه الأوثان فلم يسجد لصنم قط، وحبب إليه الخير ومكارم الأخلاق، فكان في ذلك مضرب الأمثال، وكيف لا؟ وهو الملقب من قبل قومه بالصادق الأمين ﷺ.
_________
(١) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ، ٤ / ١٧٨٢.
(٢) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات، ١ / ١٤٧.
1 / 23