وتعد هذه العبارات أصدق دليل على مدى تأثر الشاعر الفنان «فديريكو غرسيه لوركا» بمسقط رأسه وبيئته الغرناطية التي نشأ في أحضانها، بكل ما تنبض فيها من أجواء عربية وأندلسية بقيت آثارها على مر القرون، ولقد استبانت تلك الأجواء في شعره وفي مسرحياته التي استلهم فيها الروح الشعبية في قرى الأندلس ومدنه ... ومن غريب الطالع أن يرتبط موت الشاعر في عام 1936م باسم عربي كذلك؛ إذ إن مصرعه الفاجع قد وقع في بقعة لا تزال تعرف باسمها العربي وهو «عين الدمعة» بقرية «فرنار» من أرباض غرناطة، وهكذا كان مولد الشاعر وموته في تلك المدينة الأندلسية التي ارتبطت باسمه وأعماله. غرناطة، تلك المدينة الحبيبة إلى قلب كل عربي، غرناطة، آخر معقل للإسلام وللعرب في إسبانيا، تلك البلدة الجميلة التي تقع أجزاء منها فوق تلال عدة، وتنبسط أجزاء أخرى تحت أقدام تلك التلال، وتمتد في الغرب منها رقعة واسعة من الأراضي الزراعية شديدة الخصوبة، يغذيها نهرا «حدرة» و«شنيل» - اللذان تغنى بهما شعراء العرب ثم شعراء الإسبان من بعدهم، ومنهم لوركا بالذات - واللذان يستمدان مياههما من ثلوج أعلى جبال المنطقة: «سييرا نيفادا»، التي سماها العرب جبال شلير، وبجوارها جبال البشرات، وتعد تلك الرقعة الزراعية الغرناطية من أخصب المناطق في البلاد وأكفها زراعة، وقد قال عنها الرحالة العرب الأولون: إنها تفوق غوطة دمشق مساحة وخصبا.
وقد فتح العرب غرناطة في مطلع غزوتهم الإسبانية، عام 712م، واتخذوا من موقعها حصنا مكينا، نظرا لما تتمتع به من موقع استراتيجي هام وسط سلاسل جبال منيعة، وعربوا الاسم الروماني لها وهو
Granada - أي الرمانة، الذي أطلق عليها لأنها كانت على شكل يعطي للناظر من بعيد هيئة تلك الثمرة - وجعلوه غرناطة، وقد سيطر العرب على كل أجزاء شبه الجزيرة الأيبيرية ما عدا منطقتين: أشتورياس والباسك في شمال البلاد، وكان فتح الأندلس في عهد سليمان بن عبد الملك والوليد بن عبد الملك، وحين قامت الدولة العباسية، امتد حكم بني أمية في الأندلس على يد عبد الرحمن الداخل وخلفائه، إلى حين سقوط قرطبة عام 1031م، وقد حل محل الأمويين ملوك الطوائف وأشهرهم بنو عباد بإشبيلية، وبنو جهور بقرطبة، وبنو عامر بشاطبة، وبنو هود بسرقسطة، وبنو حمود بمالقة، ثم جاء عصر دولة المرابطين، فدولة الموحدين التي امتد عهدها حتى عام 1269م، وأما غرناطة فكانت خلال الحكم الأموي تدخل في إقليم «ألبيرة»، وبعد سقوط قرطبة استقل بها حاكمها «زاوي بن زيري»، وظل يحكمها «بنو زيري» حتى غلب عليها المرابطون فالموحدون، وفي أواخر حكم الموحدين، ظهر «بنو الأحمر» واستقلوا بغرناطة، وأسسوا فيها عام 1238م «مملكة غرناطة» التي قامت لأكثر من قرنين ونصف من الزمان، وشهدت سقوط المدن العربية الأخرى في يد الإسبان، إلى أن أصبحت آخر مكان حكمه العرب في إسبانيا.
وكانت مملكة غرناطة لا تضم مدينة غرناطة الحالية وحدها، بل كان يدخل فيها مدن «ألمرية» و«مالقة» و«جبل طارق» و«الجزيرة الخضراء» و«رندة»، وأعمال هذه المدن وأرباضها، وازدهرت هذه المملكة تحت حكم بني الأحمر، رغم الاضطرابات السياسية فيها، وتربص الممالك الإسبانية بها، وشيد الملوك فيها المساجد والقصور وزرعوا البساتين، حتى أصبحت أيامها من أجمل مدن العالم، وزارها وتغنى بها الرحالة العرب، مثل «ابن بطوطة» و«ابن جبير»، وبلغت المملكة شأوها في عهد الملك محمد الغني بالله (محمد الخامس)، حين سطع في سمائها عدد من الأدباء والشعراء، على رأسهم الوزير لسان الدين بن الخطيب، مؤلف المرجع الأساسي عن المدينة وعنوانه «الإحاطة في أخبار غرناطة»، وشاعر الأندلس «محمد بن زمرك» صاحب الموشحات الأندلسية.
وتتالى على عرش المملكة بعد ذلك ملوك تراوحوا بين ضعيف وقوي، إلى أن سقطت المملكة في يد الملكين الكاثوليكيين «إيزابيلا وفرديناند» في 2 يناير 1492م، ورحل آخر ملوكها وهو محمد أبو عبد الله، مع كبار الأشراف العرب، إلى المنفى في بلاد المغرب العربي.
ورغم مرور مئات السنين على انتهاء الحكم العربي في غرناطة، لا تزال المدينة وأرباضها - شأنها شأن مدن الأندلس الأخرى ذات التاريخ الإسلامي العريق كقرطبة وإشبيلية - تزهو بالآثار العربية الإسلامية، وتنبئ تحت قشرة الأسماء الإسبانية عن أسماء عربية أو ذات أصل عربي، وأعظم الآثار القائمة بها حاليا وهو قصر الحمراء (
AlHambra
الآن بالإسبانية) وحدائقه المسماة جنة العريف
Generalife ، تشكل مع جامع قرطبة ومنارة الخريدة بإشبيلية أعظم الآثار العربية الباقية في إسبانيا اليوم.
المناخ السياسي والثقافي ونشأة الشاعر
صفحة غير معروفة