اقترب الفجر ونور لم تعد، أنهكه الانتظار والفكر حتى شعر بضربات السهاد تنهال على جمجمته، وإذا بالظلمة الحارة تنحسر عن تساؤل أحمر: هل يمكن أن تلعب المكافأة الموعودة بقلب نور؟ حقا تلوث دمه بسوء الظن لآخر قطرة، والخيانة في عينيه أضحت كرائحة الغبار في اليوم الخماسيني، وكم ظن في الماضي أن نبوية ملك يديه، ولعلها في الواقع لم تحبه قط حتى على عهد النخلة الوحيدة في نهاية الحقل، ولكن رغم ذلك كله فنور لن تخونه، ولن تسلمه إلى البوليس طمعا في مكافأة، فقد ضجرت من المعاملات، وتقدم العمر وباتت تحن إلى عاطفة إنسانية خالصة. ينبغي أن يندم على سوء ظنه، ولكن متى تعود نور ؟ لقد اشتد بك الجوع والظمأ والانتظار، كحالك يوم وقفت تحت النخلة تنتظر؛ تنتظر نبوية ونبوية لا تجيء، وجعلت تحوم حول بيت العجوز التركية وأنت تقضم أظافرك، وكدت من اليأس أن تطرق الباب في طيش جنوني، أي هزة فرح كانت تسكر جوارحك عند بزوغ طلعتها! هزة شاملة متغلغلة مطربة مسكرة تشدك من أطراف أصابعك إلى السماء السابعة، فيها الدمعة والضحكة والاندفاع والثقة والفرحة الجامحة، ولكن لا تتذكر عهد النخلة بعدما انقضى، وفصل بينك وبينه الدم والرصاص والجنون، انظر ماذا أنت صانع بمرارة الانتظار في هذه الظلمة الحارة القاتلة، يبدو أن نور لا تريد أن تعود، لا تريد أن تنقذه من عذاب الوحدة والظلمة والجوع والظمأ، ورغم كل شيء فقد نام وهو أيأس ما يكون من الندم، ولما فتح عينيه رأى الشيش ينضح بنور النهار، ووهج الحر يشتعل في الحجرة المغلقة، ووثب إلى أرض الحجرة في انزعاج ثم انتقل إلى حجرة النوم فوجدها كما تركتها المرأة أمس، ودار بالشقة: كلا، نور لم تعد. ترى أين باتت المرأة؟ وماذا منعها عن العودة؟ وإلام يقضى عليه بهذا السجن المنفرد؟ وقرصه الجوع رغم قلقه وأفكاره، فذهب إلى المطبخ فوجد في الصحاف كسرا من الخبز، وفتات لحم عالقة بالعظام، وبعضا من البقدونس، فأتى عليها في نهم شديد، وتمصص العظام ككلب، وتقضى النهار وهو يتساءل عن غيابها، وهل تعود؟ يجلس حينا ويتمشى حينا آخر، ولم يجد من تسلية إلا في النظر من الشيش إلى القرافة، ومتابعة الجنازات، وعد القبور دون جدوى، وجاء المساء ولم تعد، لا يمكن أن يقع هذا بلا سبب، أين نور؟ مزقه القلق والضيق والجوع، نور في مأزق بلا ريب، ولكن يجب أن تخلص من مأزقها ثم تعود، وإلا فكيف تمضي به الحياة؟
وغادر البيت عقب منتصف الليل دون أن يسمع همس حذائه أحد، وقطع الخلاء نحو قهوة طرزان، وعند موقفه المعتاد صفر ثلاثا، وانتظر حتى جاءه المعلم طرزان، وصافحه الرجل وهو يقول له: كن شديد الحذر، لا يخلو شبر من مخبر! - أريد طعاما ! - يا خبر أبيض! جوعان! - نعم، لا تعجب لشيء يا معلم! - سأرسل الولد ليحضر لك الكباب، ولكن من الخطر حقا أن تخرج! - تعرضنا فيما مضى لأخطار أشد، أنا وأنت ... - كلا، الهجمة الأخيرة قلبت عليك الدنيا! - طول عمرها وهي مقلوبة! - ولكن من النحس أن تهاجم رجلا خطير الشأن.
وودعه وانصرف، وبعد ساعة جاءه الطعام فالتهمه بعنف، وجلس فوق الرمال تحت قمر أوشك أن يكتمل، ونظر من بعيد إلى النور المنبثق من قهوة طرزان فوق الهضبة، وتخيل مجمع السمار والجالسين في الحجرة، حقا إنه لا يحب الوحدة، وهو بين الناس يتضخم كالعملاق، ويمارس المودة والرياسة والبطولة، وبغير ذلك لا يجد للحياة مذاقا، ولكن نور هل عادت؟ هل تعود؟ هل يرجع إليها أو يرجع إلى الوحدة القاتلة؟! وقام فنفض الغبار عن بنطلونه، ومشى نحو الغابة ليعود من الطريق الذي يدور حول مدفن الشهيد من ناحيته الجنوبية، وعند الموقع الذي انقض فيه على بياظة انشقت الأرض عن شبحين وثبا نحوه فجأة حتى أحاطا به من الجانبين. قال أحدهما بلهجة ريفية ممدنة: قف ...
وهتف الآخر: بطاقة الشخصية!
وسلط الأول على وجهه نور بطارية، فأحنى رأسه كأنه يحمي عينيه، وصاح بعنف غير متوقع في الوقت نفسه: من أنتما؟ .. تكلما!
دهش الرجلان للهجة الآمرة ولكنهما تبينا ملبسه على ضوء البطارية وإذا بالأول يقول: لا مؤاخذة يا حضرة الضابط، لم نتبين شخصيتك في ظل الغابة!
فصاح بعنف أشد: من أنتما؟
فقالا بعجلة ولهوجة: من قوة الوايلي يا فندم.
ومع أن البطارية انطفأت إلا أنه قرأ في وجه الآخر شيئا رابه، رآه يتمعن فيه بقوة، كأن شكا داخله، وخشي أن يفلت الزمام منه، فبقوة تصميم لا تعرف التردد وجه قبضتيه معا إلى بطني الرجلين فترنحا، وقبل أن يتمالكا نفسيهما انهال عليهما لكما في مواطن الضعف كالفك وأعلى البطن حتى سقطا مغشيا عليهما، ثم انطلق في طريقه بأقصى سرعة، ولم يتجه نحو شارع نجم الدين حتى وقف عند منعطفه مليا ليتأكد من أن أحدا لا يتبعه، ورجع إلى البيت فوجده خاليا كما تركه، ووجد الوحشة والضيق والقلق في انتظاره، وخلع الجاكتة وارتمى على الكنبة في الظلام، وتساءل بصوت مسموع كئيب: نور، أين أنت؟
محال أن تكون بخير، هل قبض البوليس عليها؟ هل اعتدى عليها بعض الأوغاد؟ هي ليست على أي حال بخير، هو يؤمن بذلك بقلبه وغريزته، لن يرى نور مرة أخرى، وخنقه اليأس خنقا، ودهمه حزن شديد الضراوة، لا لأنه سيفقد عما قريب مخبأه الآمن، ولكن لأنه فقد قلبا وعطفا وأنسا. وتمثلت لعينيه في الظلمة بابتسامتها ودعابتها وحبها وتعاستها فانعصر قلبه، ودلت حاله على أنها كانت أشد تغلغلا في نفسه مما تصور، وأنها كانت جزءا لا يصح أن يتجزأ من حياته الممزقة المترنحة فوق الهاوية، وأغمض عينيه في الظلام واعترف اعترافا صامتا بأنه يحبها، وأنه لا يتردد في بذل النفس ليستردها سالمة، ونفخ غاضبا وهو يتساءل: هل تهتز شعرة في الوجود لضياعها؟
صفحة غير معروفة