الفصل الأول
مرة أخرى يتنفس نسمة الحياة، ولكن في الجو غبار خانق، وحر لا يطاق، وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء، وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويا على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة .. وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية، خسر منها أربعة غدرا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديا، آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسما واحدا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديما ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر، وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر، وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر، ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها؟ .. لا شيء، كالطريق والمارة والجو المنصهر، طوال أربعة أعوام لم تغب عن باله، وتدرجت في النمو وهي صورة غامضة، فهل يسمح الحظ بمكان طيب يصلح لتبادل الحب، ينعم في ظله بالسرور المظفر؟ والخيانة ذكرى كريهة بائدة، استعن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية، كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة، ويطير في الهواء كالصقر، ويتسلق الجدران كالفأر، وينفذ من الأبواب كالرصاص. ترى بأي وجه يلقاك؟ كيف تتلاقى العينان؟ أنسيت يا عليش كيف كنت تتمسح في ساقي كالكلب؟ ألم أعلمك الوقوف على قدمين؟ ومن الذي جعل من جامع الأعقاب رجلا؟ ولم تنس وحدك يا عليش، ولكنها نسيت أيضا، تلك المرأة النابتة في طينة نتنة اسمها الخيانة، ومن خلال هذا الكدر المنتشر لا يبسم إلا وجهك يا سناء، وعما قريب سأخبر مدى حظي من لقياك، عندما أقطع هذا الشارع ذا البواكي العابسة، طريق الملاهي البائدة، الصاعد إلى غير رفعة، أشهد أني أكرهك، الخمارات أغلقت أبوابها، ولم يبق إلا الحواري التي تحاك فيها المؤامرات، والقدم تعبر من آن؛ لأن نقرة مستقرة في الطوار كالمكيدة، وضجيج عجلات الترام يكركر كالسب، ونداءات شتى تختلط كأنما تنبعث من نفايات الخضر، أشهد أني أكرهك، ونوافذ البيوت المغرية حتى وهي خالية، والجدران المتجهمة المقشفة، وهذه العطفة الغريبة عطفة الصيرفي، الذكرى المظلمة، حيث سرق السارق، وفي غمضة عين انطوى، الويل للخونة، في هذه العطفة ذاتها زحف الحصار كالثعبان ليطوق الغافل، وقبل ذلك بعام خرجت من العطفة ذاتها تحمل دقيق العيد، والأخرى تتقدمك حاملة سناء في قماطها، تلك الأيام الرائعة التي لا يدري أحد مدى صدقها، فانطبعت آثار العيد والحب والأبوة والجريمة فوق أديم واحد، وتراءت الجوامع الشاهقة، وطارت رأس القلعة في السماء الصافية، وانساب الطريق في الميدان، وتجلت خضرة البستان تحت الأشعة الحامية، وهبت نسمة جافة رغم القيظ منعشة، ميدان القلعة بكل ذكرياته المحرقة، وكان على الوجه الذي لفحته الشمس أن ينبسط، وأن يصب ماء باردا على جوفه المستعر؛ كي يبدو مسالما أليفا، فيمثل دوره المرسوم كما ينبغي، واجتاز وسط الميدان متجها نحو سكة الإمام، ومضى فيها يقترب من البيت ذي الأدوار الثلاثة في نهايتها، وعلى مفرق عطفتين جانبيتين يتفرع إليهما الطريق الأول، في هذه الزورة البريئة سيكشف العدو عما أعده للقاء، فادرس طريقك ومواقعه، وهذه الدكاكين التي تشرئب منها الرءوس كالفيران المتوجسة، وجاءه صوت من وراء يقول: سعيد مهران! .. ألف نهار أبيض!
توقف عن المسير حتى أدركه الرجل، فتصافحا وهما يغطيان على انفعالاتهما الحقيقية بابتسامة باهتة، إذن بات للوغد أعوان، وسيرى قريبا ما وراء هذا الاستقبال، ولعلك تنظر من الشيش مستخفيا كالنساء يا عليش. - أشكرك يا معلم بياظة!
ولحق بهما كثيرون من الدكاكين على الجانبين، وارتفعت حرارة التهاني، وسرعان ما وجد نفسه مطوقا من جميع الجهات بحشد من أصدقاء غريمه ولا شك، واستبقت الحناجر قائلة: الحمد لله على سلامتك! - مبارك للأصدقاء والأحباب! - قلنا من القلوب سيفرج عنه في عيد الثورة!
فقال وهو يتفحصهم بعينيه اللوزيتين العسليتين: الشكر لله ولكم!
فربت بياظة على منكبه قائلا: تعال إلى الدكان لنشرب الشربات!
فقال بهدوء: فيما بعد، عند العودة. - العودة؟!
وصاح أحد الرجال موجها حنجرته إلى الدور الثاني من البيت: يا معلم عليش! .. يا معلم عليش، انزل هنئ سعيد مهران!
لا داعي للتحذير يا خنفساء، إني قادم في ضوء النهار .. وأعلم أنكم تترقبون .. وعاد بياظة يتساءل: العودة من أين؟ - لدي حساب يجب أن أسويه!
فتساءل بوجه ممتعض: مع من؟ - أنسيت أنني أب؟ .. وأن ابنتي الصغيرة عند عليش؟ - نعم، ولكل خلاف حل في الشرع!
صفحة غير معروفة