فأسند رأسه المفلفل إلى يده المعروقة الدكناء وقال: كان أبي يقصدك عند الكرب، وجدت نفسي ...
فقاطعه بهدوء لا يخرج عنه: أنت تريد بيتا ليس إلا!
تضاعف شعوره بأنه يعرفه، وقلق دونما سبب مفهوم، وقال: ليس بيتا فحسب، أكثر من ذلك، أود أن أقول: اللهم ارض عني!
فقال الشيخ كالمترنم: قالت المرأة السماوية: «أما تستحي أن تطلب رضا من لست عنه براض؟!»
وضج الخلاء في الخارج بنهيق حمار ختم بحشرجة كالبكاء، وغنى صوت لا حلاوة فيه «البخت والقسمة فين؟» كما ضبطه أبوه وهو يغني «حزر فزر»؛ فلكمه برحمة وقال له: أهذه أغنية مناسبة ونحن في الطريق إلى الشيخ المبارك؟ وترنح الأب وسط الذكر، غابت عيناه، بح صوته، تصبب عرقا، وجلس هو عند النخلة يشاهد صفي المريدين تحت ضوء الفانوس، ويقضم دومة، وينعم بسعادة عجيبة، وكان ذلك سابقا لنزول أول قطرة حارقة من شراب الحب، وأغمض الشيخ عينيه فكأنه نام. وألف هو المنظر والجو، حتى البخور لم يعد يشمه، وطرأت فكرة بأن العادة أساس الكسل والملل والموت، وهي المسئولة عما عانى من خيانة وجحود وضياع جهد العمر سدى، وتساءل ليوقظه: ألا تزال تحيا الأذكار هنا؟
فلم يجبه، وساوره القلق، فعاد يسأل: ألا ترحب بي؟
ففتح الشيخ عينيه قائلا: ضعف الطالب والمطلوب! - لكنك صاحب البيت!
فقال في مرح طارئ: صاحب البيت يرحب بك، وهو يرحب بكل مخلوق، وبكل شيء.
فابتسم سعيد متشجعا، فاستدرك الشيخ قائلا: أما أنا فصاحب لا شيء!
وكان ضوء الشمس المرسوم على الحصيرة قد انسحب إلى الجدار، فقال سعيد: على كل حال فهذا البيت بيتي، كما كان بيت أبي، وبيت كل قاصد، وأنت يا مولاي جدير بكل شكر!
صفحة غير معروفة