وكان الحديث بينهما تعليقا على الدروس والهوامش وآراء الأساتذة واختلاف العلماء. وكان غاية ما يذهبان إليه في أحاديثهما من جرأة أن يذكرا اختلاف مشايخ الأزهر وكره بعضهم لبعض - وكان المشايخ يهيئون لهم من هذا الحديث مادة لا تنفد - فقد كان جميعهم مختلفا مع جميعهم، وكان جميعهم لا يكتم غيظه وكرهه لجميعهم.
قد كان هذا، ولكن في ذلك اليوم المشهود من تاريخ الشيخ سلطان بدأ الشيخ عبد التواب حديثه بعد الدرس بداية لم تكن في أولها غريبة على الشيخ سلطان، إلا أنها أدت في آخر اليوم إلى قطعة من تاريخ الشيخ سلطان يجدها أحيانا قطعة جميلة فيها جرأة وفيها شباب وفيها حلاوة، ويجدها أحيانا أخرى قطعة شوهاء فيها معصية وفيها كفر وفيها مروق.
قال الشيخ عبد التواب: نصلي اليوم في جامع عمرو بن العاص. - لا بأس، ولكن لماذا اخترت عمرو بن العاص وقد كنا به منذ أيام قلائل؟ - عرفت عنه معلومات ما كانت لتخطر لي على بال. - وماذا عرفت؟ - ألا تحب أن تنتظر فتجمع إلى متعة المغامرة متعة المفاجأة؟
وداعبت صدر الشيخ سلطان عوامل اختلفت بين الخوف والرغبة والإقدام والإحجام: وهل هناك مغامرة؟ - سوف ترى.
وانتقل الشيخ عبد التواب إلى حديث آخر؛ فقد كان يخشى أن يتضح من نيته أكثر مما ظهر، وكان يخشى أن يثنيه الشيخ سلطان عما عزم عليه أمره. وبلغ الشيخان المسجد وأقاما الصلاة، حتى إذا أتماها قال الشيخ سلطان: ألا نقوم فنصلي المغرب في الحسين، ثم نذهب إلى البيت لنذاكر؟ - ألا نصلي السنة؟ - نصليها.
وصليا السنة، ثم أراد الشيخ سلطان أن ينصرف، فظل الشيخ عبد التواب يغريه بصلوات أخرى، حتى إذا انتهى ما يعرفه من أنواع الصلاة صارح الشيخ سلطان برغبته في أن يصليا المغرب حيث هما. وفهم الشيخ سلطان أن المغامرة تكمن لهما بعد المغرب، فتظاهر بالغفلة ومكث. وحلت صلاة المغرب وصلياها أيضا، وتظاهر الشيخ سلطان بالغفلة مرة أخرى، ومكث حيث هو ليرى المفاجأة التي أعدها له الشيخ عبد التواب. ولم يطل به الانتظار؛ إذ ما لبثت سيدة ملفوفة في ملاءة أن وقفت بباب المسجد وأخذت تجيل عينيها في أنحائه، حتى إذا اطمأنت إلى قلة من به خلعت حذاءها ودخلت. وما إن اقتربت من عمودين في وسط المسجد حتى خلعت ملاءتها، وحينئذ لكز الشيخ عبد التواب الشيخ سلطان ليرى إن لم يكن قد رأى، ولم يكن الشيخ سلطان في حاجة إلى هذه اللكزة؛ فقد كانت عينا الشيخ على الفتاة منذ لاحت بباب الجامع. ولم تعبأ المرأة بنظرات الشيخين، بل راحت تحشر جسمها بين العمودين وهي تتمتم بكلمات لم يسمع منها الشيخان شيئا. وبدت الدهشة في عيني الشيخ سلطان، وارتسمت على فم الشيخ عبد التواب ابتسامة العالم ببواطن الأمور، ولم يمهله الشيخ سلطان: ماذا تفعل؟ - تحمل.
وقفز الشيخ سلطان قفزة كادت توقعه على قدميه وهو يقول: ماذا؟! - إنهن يجئن هنا معتقدات أن المرور بين هذين العمودين يجعلهن يحملن.
ومص الشيخ سلطان شفتيه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! ... ألمثل هذا جئت بي؟! - ماذا؟! ألا يعجبك؟ ... أنقوم؟
وتخاذل صوت الشيخ سلطان وقال في استخذاء: أما كان الأولى بك أن تخبرني؟ - إننا ما زلنا على البر، أتحب أن نقوم؟ - ماذا؟! على البر! ... أتنوي أن ننزل إلى البحر؟ - ويحك! لن نمضي من هنا إلا والبحر في يدنا. - يا شيخ حرام عليك! - إن كان الحال لا يعجبك نمشي. - أتعرف كيف تجيء بالبحر؟ - لقد وصف لي الشيخ عبد الباسط امرأة معينة، وقال إنها صديقة طلبة الأزهر، وإنها ترضى بالقليل. - وما القليل؟
وهكذا نمت التجربة للشيخ سلطان، فقد جاءت المرأة وكانت كما وصفها الشيخ عبد الباسط، وكانت ليلة.
صفحة غير معروفة