كيفية أخذ العلم في القرن الأول
والذي كان عليه العمل في القرن الأول هو أنهم كانوا يأخذون الحديث ويعملون به، وإذا نزلت بالناس نازلة يحتاجون إلى معرفة حكمها، فمن كان عنده حديث عن رسول الله ﷺ ذكره، ومن لم يكن عنده شيء سأل الناس حتى يجد الدليل على ذلك إن وجد.
وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما جاءته جدة تسأله الميراث من حفيدها، قال أبو بكر ﵁: (ليس لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله ﷺ، ولكن حتى أسأل الناس)، فسأل، فجاءه اثنان من الصحابة وأخبراه بأن الرسول ﷺ أعطاها السدس، فقضى بالسدس.
وكان الواحد منهم عندما يسأل عن مسألة من المسائل ولا يجد فيها حديثًا يفتي السائل ويقول: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، ثم يفتيه بما ظهر له، وإذا أفتى ثم تبين له بعد ذلك الحديث عن الرسول ﷺ ترك فتواه، ورجع إلى حديث رسول الله ﵊.
فكان المعول عليه هو الدليل من الكتاب والسنة، وهذا هو الذي كان عليه الناس في القرن الأول، فمن كان عنده علم عن الرسول ﷺ يعمل به، والذي لا يكون عنده علم يسأل من عنده علم، فإذا وجده أخذ به، وإن لم يجده اجتهد وأفتى، ولهذا نقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في مسائل الفقه المختلفة الأقوال المتعددة، فكثيرًا من المسائل يذكر فيها رأي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وعبد الله بن مسعود، وفلان وفلان وفلان، وهكذا تذكر أقوالهم وآراؤهم في المسألة.
هكذا كان شأنهم، وقد مضى على ذلك القرن الأول، ثم مضى التابعون على هذا المنوال، حيث كان الواحد منهم يرتحل من مكان إلى مكان؛ ليحصل الحديث عن رسول الله ﷺ ليعمل به، وكان بعضهم يسأل بعضًا عما يحصله من الأحاديث عن الرسول ﵊.
ومن الأمثلة: أن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ولما قال: أنا انقدح في ذهنه أنه قد يظن أنه رآه لأنه كان قائمًا يصلي، فخشي أن يظن أنه مشتغل بالعبادة، وهو ليس متلبسًا بهذه العبادة، فبادر ونفى عن نفسه أن يظن أنه عمل شيئًا وهو ما عمله؛ لأنهم كانوا لا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فقال: أما إني لم أكن في صلاة؛ ولكني لدغت، يعني: أن السبب الذي كنت مستيقظًا لأجله ورأيت الكوكب الذي انقض البارحة: أني كنت لديغًا.
فقال له: فماذا صنعت؟ قال: قلت: ارتقيت، يعني: بحثت عن أحد لينفث عليَّ رقية، فقال: ما حملك على هذا؟ يعني: ما هو الدليل على أنك ارتقيت؟ فأجابه بالحديث الذي بلغه في ذلك، وهو قوله ﵊: (لا رقية إلا من عين أو حمة).
فماذا قال له سعيد بن جبير؟ قال: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
يعني: من انتهى إلى ما بلغه عن الرسول ﵊ فقد أحسن، ثم أرشده إلى شيء أولى وأكمل وأفضل، فقال: ولكن حدثنا ابن عباس وذكر حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وذكر من صفاتهم: (أنهم لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون).
فكان بعضهم يسأل بعضًا عن العمل الذي عمل، وما الذي حمله على أن يعمل به؟ فيبين الدليل الذي بلغه عن رسول الله ﵊.
فـ سعيد بن جبير كان يرى أن الأولى خلاف هذا الشيء، وهو الأخذ بما هو الأكمل والأولى، وهو أن يكون الإنسان على طريقة السبعين ألفًا، ولذا قال: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
وهذه كلمة من أجمل الكلام وأحسنه، وهي أن الإنسان إذا عمل بالدليل الذي بلغه عن رسول الله ﷺ فهو محسن، وهو مأجور، وهو على خير.
1 / 10