243

دروس للشيخ ياسر برهامي

تصانيف

الله نور السماوات والأرض
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر:١٨].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فلقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جوامع الكلم، وفضل على النبيين بذلك، وجعل الله ﷿ كلماته المباركات سراجًا ونورًا للأمم، تهتدي بها إلى صراط الله المستقيم، وأدعيته صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أعظم معجزاته وأظهر دلالات نبوته؛ لما جمعته من معاني الإيمان، وأرشدت إليه من معاني الإحسان، التي تزكو بها النفوس، وترتقي بها القلوب.
ومن أدعيته ﷺ ما كان يدعو به في استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد ﷺ حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).
ابتدأ النبي ﷺ هذا الدعاء بالحمد وهو أفضل الدعاء كما قال ﵊: (أفضل الدعاء: الحمد لله، وأفضل الذكر: لا إله إلا الله)، ثم شرع في الثناء على الله ﷿ بأسمائه الحسنى وصفاته العليا فقال: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن)، وقال ﷿ مبينًا ذلك: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور:٣٥]، فهذه الآية من أعظم ما يبين معنى قوله ﷺ: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) وقد فسره السلف رضوان الله ﵎ عليهم بمعنى أن الله منور السماوات والأرض، وجاعل النور فيهما.
فهذه الآية الكريمة في ضرب مثل نور الإيمان بالله في قلب العبد المؤمن «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ»، فالمشكاة هي: الكوة في الجدار، أو التجويف في الجدار، وذلك يكون أبعد عن الريح حتى لا ينطفئ السراج الذي بداخلها، فقلب المؤمن مثل ذلك لا تطفئ نور الإيمان فيه رياح الفتن، فالمشكاة صدره، والمصباح هو الفتيلة المضيئة، وهي: نور الإيمان والمعرفة بالله ﷿، المصباح في زجاجة، والزجاجة قلبه بشفافيته وصلابته، فهو شفاف يدخل إليه النور، ويخرج منه النور، فالمؤمن في كل حال يتعظ بمواعظ الحق ويستجيب لها، ويلين قلبه لها ويتأثر بها، وهو في نفس الوقت يشع النور فيمن حوله ممن يخالطه ويعاشره من أهله وجيرانه وقرابته، فهو ينشر فيهم نور الإيمان، ومعرفة الله ﷾ وشرعه، والإيمان برسله وكتبه، وهو في نفس الوقت صلب لا ينثني عن الحق، ولا يتأثر بما حوله من الباطل، فالزجاج ينكسر ولا يتغير شكله، فكذا المؤمن ثابت على الحق ولو أصابه ما أصابه في الله.
وقد بين الله ﷿ أنه نور السماوات والأرض أي: منورهما، ولذا قال ابن عباس وغيره من السلف: هادي أهل السماوات والأرض.
وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: نور السماوات والأرض من نور وجهه.
فالله ﷿ جعل النور في السماوات والأرض، النور الحسي والنور المعنوي، وهو ﷾ خالق هذه الأنوار التي يراها الناس ويدركونها، وهذا في حقيقة الأمر أثر من آثار اتصافه ﷾ بالنور، كما قال ﷿: ﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ [الزمر:٦٩].
وقال النبي ﷺ: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) أي: خلقه جميعًا، (حجابه النور) هذا هو الحجاب الذي يحجب الخلق في هذه الدنيا عن رؤيته ﷾، ودونه حجب أخرى، وآخرها نور مخلوق لو كشفه الله ﷿ لأحرقت أنوار وجهه ﷿ جميع الخلق؛ لأنهم لم يهيئوا في هذه الدنيا للنظر إلى وجه الله ﷿، وهذا الحجاب هو الذي حجب رسول الله ﷺ عن الرؤية ليلة المعراج، قال النبي ﷺ لما سأله أبو ذر: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفي الرواية الأخرى: (رأيت نورًا)، فقد رأى نور الحجاب ﷺ، فكيف يراه وقد حجبه هذا النور الهائل الذي هو نور الحجاب؟!

21 / 2