195

دروس للشيخ ياسر برهامي

تصانيف

غاية الابتلاء وثماره
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﵌.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فلقد بين النبي ﷺ أن (لا حول ولا قوة إلا بالله) كنز من كنوز الجنة، وهذا الأمر من أعظم ما يلزم المؤمن اعتقاده خصوصًا عندما تختل موازين القوى في ظاهر الأمور، ويشتد الصراع مع أهل الكفر والنفاق على ظهر هذه الأرض، ويبتلي الله ﷾ عباده المؤمنين بأنواع الابتلاء وبشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ويتسلط الكفرة على بلاد المسلمين وحرماتهم ومقدساتهم، ويظن كثير من الناس أن موازين القوى في هذه الأرض في صالح الكفرة، وأن القوة لهم جميعًا، وأن مفاتيح القضايا بأيديهم، وبالتالي يسيرون في مناهج حياتهم على وفق هذا المعتقد، فهم يوافقون أهل الكفر والنفاق والظلم والباطل؛ لأجل ما يتصورونه من أن القوة والسلطة والتمكين لهم، وأن الأمور بأيديهم.
وأما أهل الإيمان فإذا استحضروا أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الله ﷾ لمتانة كيده يملي لهم، كما قال ﷿: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم:٤٤ - ٤٥]، إذا استحضر أهل الإيمان ذلك علموا أنهم جند الله ﷾ الذين ألقاهم في وسط الصراع مع أهل الباطل من غير كثرة عدد ولا قوة عتاد، بل مع ضعف إمكانيات، مع أن جنوده ﷾ لا يحصيهم سواه، فالأرض والسماوات وما بينهما مسخرات بأمره، ولو شاء ﷾ لأمر الأرض فانخسفت بالكفرة، والسماء لحصدتهم، والبحار لأغرقتهم، وكل عاقل يقر بأن ذلك ليس في يد أحد من الناس، فالأرض والسماء والبحار وسائر ما يحيط بالناس في حياتهم لا يملكونه.
إذا استحضر المؤمن أن أهل الإيمان قد ألقاهم ﷾ في الابتلاء ليظهر منهم صدق الإيمان، وقوة اليقين، وصدق الاعتقاد بأنه لا قوة إلا به ﷿، وأنه لا حول إلا به ﷾، وأن الأمور بيده، وأنه مالك الملك، فإذا ظهر منهم ذلك على ما يحب سبحانه عندها يغير الله موازين القوى لصالحهم في لحظة كلمح بالبصر، ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر:٥٠]، وتضل أعمال الكفرة وتبطل، ويزهق الباطل كما أخبر ﷾: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوااتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ * فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:١ - ٧]، فالله ﷿ يبتلي عباده المؤمنين ليرى إيمانهم، وليرى نصرتهم للدين، وليرى ﷾ ما يحب من أنواع عبوديته التي لا تظهر إلا في المحن والشدائد، ولا تحصل إلا بوجود أضدادها من أنواع الكفر والفسوق والعصيان.
وإذا طال الأمر على أهل الإيمان فبسبب ما يحبه الله ﷿ منهم لم يصل إلى ما يريد من الكمال، فلا بد أن يستكملوا معاني الإيمان، وحقائق العبودية؛ لكي يحصل ما أخبر الله ﷿ به.
ولعلهم في هذه المرحلة -عندما يشتد بهم الحال- يكونون في أحسن أحوالهم، وهذا أفضل مما لو مكنوا على حال فيها نقص وتقصير وشهوات ورغبات دنيوية، فيحصل من ذلك ما لا يعلمه إلا الله من الفساد، فلا بد أن ينتبه المسلم لحقيقة الصراع الذي يجري بين أهل الإسلام وبين أعدائهم من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين في مشارق الأرض ومغاربها، وبلا شك أن قلب كل مؤمن يتألم لما يجري مما يكرهه الله من أذية للمسلمين ومخالفة لشرع الله، وصدٍ عن سبيله، وانتشار لأنواع الفساد من الكفر والفسوق والعصيان في مشارق الأرض ومغاربها، ولا شك أن ذلك يؤلم كل قلب حي بالإيمان، عالم بحقيقة الحياة قربًا من الله ﷿ وعبودية له، فيتألم إذا وجد حال المسلمين في تباعد عما أوجبه الله ﷿ عليهم من الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والامتثال لشرعه، كما يؤلمه تفرقهم واختلافهم وتنازعهم، وما هم فيه من ضعف وهوان، ولكنه في نفس الوقت إذا لاحظ عاقبة الأمور، وعلم لماذا قدر الله ﷿ كل ذلك مما يكرهه سبحانه، وعلم الحكمة من وراء تقدير الشر والمكروه؛ عند ذلك يستفيد أعظم الاستفادة من الواقع الذي يعيشه، ويكون ذلك الألم نافعًا لتحقيق ما أراد الله ﷿ منه شرعًا، وسبيلًا لتحقيق مزيد من الإيمان والعبودية والأعمال الصالحة؛ التي إذا وجدت تغيرت موازين القوى، وأصل ذلك معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومشاهدة آثار هذه الأسماء والصفات في الواقع المشهود الذي يراه الناس.

17 / 2