قبول الحق والإنصات له
الأدب الرابع: قبول الحق والإنصات له، فلابد أن يكون المختلفان يطلبان الحق، وينصتان له، ويقبلانه، فالذي يصم عن الحق ولا يقبله لا يمكن أن يتأدب بأدب الخلاف أصلًا، ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر:١٧ - ١٨]، فهم يستمعون أولًا ثم يتبعون، وعاب على الكفار قولهم: ﴿لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت:٢٦]، فلابد من الإنصات للخصم حتى يسمع الإنسان ما عنده، ولابد أن يقبل ما في كلامه من الحق، ولهذا علمنا الله في مجادلة المشركين أدبًا عجيبًا فقال: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ:٢٤]، فمن المعلوم أن النبي ﷺ هو الذي على هدى، وأن المشركين في ضلال مبين، لكنه أتى بـ (أو) في هذا الأسلوب لأدب الخلاف؛ ولذلك كان النبي ﷺ في أدب الخلاف مع المشركين يخاطبهم بأحب أسمائهم إليهم، فلما أتاه عتبة بن ربيعة قال له: (اسمع أبا الوليد!) وكناه، وهذا يقتضي الأدب مع كل مخالف، فلا فائدة من نقص الأدب معه، وإنما يزيده نفرة، ولا يزيد الحق ظهورًا، ولهذا قال الشافعي ﵀: (ما ناظرت أحدًا إلا سألت الله أن يظهر الحق على لسانه، قيل ولمَ؟ قال: إن ظهر على لسانه عرفت الحق ولم أفتن، وإن ظهر على لساني خشيت أن أفتن).
وقد بين الله ﷾ أن الخلاف لا يقتضي استنكافًا عن الحق وإنكارًا له، بل قال: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ [المائدة:٢]، وقال: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:٨]؛ ولذلك فإن عمرو بن العاص ﵁ -كما في صحيح مسلم - أثنى على الروم بما علم فيهم من الخير، وقد ذكر النبي ﷺ عددًا من المشركين فأثنى عليهم ببعض الصفات الحميدة التي كانت فيهم كـ المطعم بن عدي وغيره.
3 / 25