202

دروس للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي

تصانيف

تميز الدولة الإسلامية بالبيعة ومن ميزات دولة الإسلام -كذلك- في العلاقة بين الراعي والرعية: البيعة، وهذه البيعة هي في الأصل بيعة مع الله ﷾ على نصرة دينه وبذل النفس والمال في سبيل ذلك، وهي التي بايع الله عليها كل المؤمنين في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:١١١]. وهذه البيعة لابد أن يمثل الجانب الديني فيها طرف يأخذ الشروط الشرعية على من يبايعه، وقد نصب الله لذلك رسوله ﷺ، وأمره ببيعة من يبايعه على الشروط التي حددها، لكنه أخبر أن تلك البيعة ليست مع الرسول ﷺ وإنما هي مع الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح:١٠]، فهي إذًا عهد على السمع والطاعة في المعروف وعلى نصرة الحق، وهي كذلك رباط روحي يجمع المرتبطين به على نصرة دين الله ﷾، وتختلف أساليبها باختلاف ما يحقق المصلحة. فقد بايع رسول الله ﷺ الأنصار بالعقبة بيعة النساء، التي حدد الله شروطها في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة:١٢]. وبايع رسول الله ﷺ الأنصار أيضًا بعد الهجرة، ثم بايع أصحابه قبل الخروج إلى بدر على القتال، ثم بايع المؤمنين يوم الحديبية على الموت، وقد بايع أفرادًا من أصحابه على شروط مخصوصة، مثل ما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي ﵁ قال: (بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فشرط علي: والنصح لكل مسلم)، وكذلك بايع عشرة من أصحابه على ألا يسألوا أحدًا شيئًا، فنوع رسول الله ﷺ طرق البيعة، وجعل بيعته للرجال عن طريق المصافحة أو عن طريق الالتزام العام. وبيعته للنساء قال فيها: (إني لا أصافح النساء وإنما مقالي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، ونوعها أيضًا فقد كان يغمس يده في إناء فيه ماء فيغمس النساء أيديهن فيه بعد أن يرفع رسول الله ﷺ يده وذلك للتبرك؛ لأن النساء يغبطن الرجال على ملامسة يد النبي ﷺ لما فيها من البركة، فجعل لهن بديلًا وهو أن يغمس يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم تغمس كل امرأة يدها فيه للتبرك من يد رسول الله ﷺ التي لامست ذلك الإناء. ثم لما جاء أبو بكر ﵁ طور هذه البيعة فبايعه الناس بسقيفة بني ساعدة البيعة الخاصة، وبايعوه بالمسجد البيعة العامة، وطورها أيضًا تطويرًا جديدًا حين عهد بالخلافة إلى عمر، ثم طورها عمر تطويرًا جديدًا حين تركها في ستة توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض، فدلنا هذا على أنها ليست مقصورة على أسلوب واحد، وإنما تتنوع بحسب ما تؤدي إليه المصلحة المقصودة، وما لم يخالف ذلك حكمًا شرعيًا فهو مقبول شرعًا. وهذه البيعة ترفع الوعيد الثابت عن رسول الله ﷺ في قوله: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) والحديث في صحيح مسلم، فإذا بايع الإنسان هذه البيعة منعه ذلك من النكث، ولا يحل له أن ينكث حتى يرى كفرًا بواحًا له عليه من الله برهان، كما صرح بذلك رسول الله ﷺ. وقد أجمعت الأمة على وجوب إقامة دولة الإسلام، ووجوب بيعة الخليفة، ونصبه، وفي ذلك يقول المقري ﵀: والنصب للإمام بالشروط حتم بشرع بالهدى منوط فهذا أمر حتم لابد من أدائه.

7 / 11