مراتب القضاء والقدر
باب القدر من الأبواب التي لا يجوز أن يتكلم فيها إلا من أتقنها وعلم ما يزيل إشكالاتها، وقد زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وإن مما يعين على فهم مسائل القدر معرفة مراتبه، فمعرفتها مهمة لكل مسلم، ليطرد بها وساوس المبتدعة وشبهاتهم.
1 / 1
بيان أهمية القدر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني الكرام لقد مايز الله بين عباده وبين خلقه بالإيمان بالغيوب، فإن الله جل في علاه أناط الفلاح، وأناط النجاة في الآخرة بالإيمان بعلم الغيب، قال الله تعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:١ - ٢]، ثم فسر صفات المتقين ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة:٣]، ثم ذكر الله جل في علاه الفلاح في آخر الآيات: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة:٥]، فأناط الفلاح بالإيمان بالغيوب، والإيمان بالغيب له آلات وأدوات، وسبل وأنواع، لا بد للإنسان أن يتعبد لله جل في علاه باليقين في الله والإيمان بهذه الغيوب، ومن هذه الغيوب القدر، فالقدر من علم الغيب، وهو سر قد كتمه الله جل في علاه عن كل الخلق، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولذلك فهو دحض مزلة لا يدخل ولا يتعمق فيه أحد إلا ضل، وقد ضلت أفهام وزلت أقدامٌ في هذا الباب العظيم الشائك.
قال الإمام أحمد بن حنبل: القدر سر كتمه الله عن خلقه، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
إن القدر: هو قدرة الله، وهو من لوازم ربوبية الله جل في علاه، ونحن بإذن الله سندرس وننتقي مسائل مهمة جدًا في مسائل القدر، وهي مسائل شائكة، لكن قبل ذلك لا بد أن تكون هناك توطئة ومقدمة، أو قاعدة عريضة لطالب العلم، لا بد أن يتقنها؛ حتى يسير في أبواب القدر، ولا يضل كما ضلت القدرية والجبرية.
1 / 2
تعريف القدر
القدر لغة: مأخوذ من التقدير، وهو الموازنة بين الأشياء، وقيل: هو مأخوذ من القدرة، وهذا صحيح؛ لأن القدر قدرة الله جل في علاه، وهو من لوازم ربوبية الله جل في علاه.
وشرعًا: هو الإيمان بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، هذا هو تعريف القدر شرعًا.
وقد بين الله جل في علاه مسائل القدر في كتابه بيانًا جليًا، وأيضًا على لسان نبيه محمد ﷺ، وبين أهمية القدر، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:٤٩]، فما ترك شيئًا، وقد قال علماء اللغة وعلماء الأصول: (كل) نص في العموم لا تترك شيئًا بحال من الأحوال، فكل شيء مخلوق بقدر حتى أفعال العباد، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:٤٩].
أيضًا قال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان:٢].
وقال الله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب:٣٨].
وقال جل في علاه مبينًا أن الهداية والإضلال من أبواب القدر، وأنهما بيد الله جل في علاه: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام:١٢٥]، فالإضلال والهداية من أبواب القدر، وهي بيد الله جل في علاه.
وجاء في المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن النبي ﷺ خرج بكتاب على يمنيه، وكتاب على يساره، وقال: فرغ ربكم من العباد، ثم قال: هؤلاء لأهل الجنة ولا أبالي، بأسمائهم وأسماء آبائهم وختم على ذلك، وهؤلاء لأهل النار ولا أبالي، بأسمائهم وأسماء آبائهم وختم على ذلك)، فقد قدر الله كل شيء وكتبه في اللوح المحفوظ.
1 / 3
بعض الأدلة الواردة في الإيمان بالقدر
أهمية الإيمان بالقدر تظهر جلية في حديث النبي ﷺ عندما جاءه جبريل على صورة بشر كما في حديث أبي هريرة وعمر، وتمثل بشرًا؛ ليعلم الناس أمر الدين، فدخل على النبي ﷺ يسأله عن الإسلام وعن الإيمان، وكان الجواب من النبي ليس بالتعريف اللغوي كما نعرفه الآن، بل أتى بالتعريف بأصل أو بأهم ما يكون في الإيمان، فكأن جبريل وهو يسأل النبي ﷺ يقول له: أخبرني يا محمد! -بأبي هو وأمي ﷺ عن الإيمان؟ فقال: سأجيبك بأهم ما في الإيمان، وهي أركان الإيمان، أو الأعمدة والأساطين التي يكون عليها بناء الإيمان، فأجابه عن أركان الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وأيضًا ورد في حديث يسمى مسلسلًا عند علماء الحديث، والمسلسل عند علماء الحديث: هو ورود الحديث بصفة أو هينة واحدة من أول السند إلى آخره، وقد يكون التسلسل في المتن وقد يكون في السند، مثال المسلسل في المتن حديث معاذ عندما قال له النبي ﷺ: (يا معاذ! إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة) وذكر الحديث، فلما روى معاذ الحديث للتابعي قال له: إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة، والتابعي يقول لتلميذه نفس ما قاله معاذ ﵁ وأرضاه، فتسلسل الحديث بذلك.
أيضًا هناك حديث منسلسل بالضحك، عن علي بن أبي طالب في حديث ركوب الدابة، وهذه السنة قد ماتت، وهي أن الإنسان إذا ركب الدابة قال: باسم الله، الحمد لله الذي سخرنا لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الحمد لله، ثم يقول: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب، وعندما قال ذلك النبي ﵊ ابتسم في آخره، وكذلك علي بن أبي طالب ومن بعده كانوا يبتسمون عند رواية هذا الحديث، ولهذا تجدها في الإسناد مسلسلة بالمتن.
وجاء حديث الإيمان بالقدر وأهميته مسلسلًا، وهو أنه قال: (آمنت بالقدر خيره وشره) فجاء أبو هريرة فقال: قال النبي ﷺ:، ثم إن أبا هريرة وبعد إتمام الحديث يقول: (آمنت بالقدر خيره وشره).
فالنبي ﷺ يأمر الأمة بالإيمان بالقدر، ويبين ركنية الإيمان بالقدر بقوله: (أن تؤمن بالله وبملائكته إلى أن قال وتؤمن بالقدر خيره وشره).
هذه الأحاديث التي أثبتت أهمية وركنية القدر، بينت أن من لم يؤمن بالقدر فقد هدم إيمانه، وهنا تظهر -جليًا- الأهمية القصوى للإيمان بالقدر، إذ هو ركن من أركان الإيمان، وإذا هدم أحد الناس هذا الركن فقد هدم إيمانه، ويدل على ذلك حديث مسلم عن ابن عمر ﵁ وأرضاه عندما اكتنفاه رجلان من الكوفة، رجل عن يمينه ورجل عن يساره، وقالا لـ ابن عمر: تكلم أناس عندنا في القدر، وقالوا: إن الأمر أُنُفٌ، فقال ابن عمر ﵁ وأرضاه: أبلغهم أني منهم براء، وهم مني براء، يعني: أنا برئت منهم وهم براء مني، ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه.
وأصرح من ذلك حديث عبادة بن الصامت، وهو يشرح لابنه الإيمان بالقدر، فقال: عليك أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، قال: فإن مت على غير ذلك دخلت النار.
وأيضًا جاء عن النبي ﷺ بسند صحيح أنه قال: (من لم يؤمن بالقدر أحرقه الله بالنار)، وقد ورد أيضًا مقطوعًا عن ابن وهب أنه قال: (من لم يؤمن بالقدر أحرقه الله)، وفي رواية أخرى عن عوف بن مالك أنه قال: (من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام)، فإن المؤمن لا يستقيم إيمانه عند ربه جل في علاه، ولا يكون من الخالدين في الجنة إلا أن يؤمن بهذا الركن الركين من هذا الدين، وهو الإيمان بالقدر، وإذا قلنا بأن القدر ركن من أركان الإيمان ولا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر، فلا بد أن نقرع باب القدر، وندخل في البوابة الصحيحة التي يطمئن فيها المرء أنه قد استقام إيمانه بالقدر ومراتبه.
1 / 4
مراتب القدر
الإيمان بالقدر يستلزم أن يؤمن المؤمن بمراتب القدر، وهي أربع مراتبٍ، نذكرها إجمالًا ثم نفصلها، وهي: علم فكتبَ فأرادَ فخلقَ أو قل: علمٌ فكتابةٌ فإرادةٌ فخلقٌ، هذه المراتب الأربعة لا يمكن أن يستقيم إيمان عبد بالقدر، إلا بالإيمان بهذه المراتب الأربعة.
1 / 5
مرتبة العلم وقول أهل الحق فيها والرد على مخالفيهم
المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر العلم، وحقيقتها أن تؤمن وتعتقد اعتقادًا جازمًا بأن الله جل في علاه قد أحاط بكل شيء علمًا، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ [المائدة:٩٩]، وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:١٩]، وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾ [الرعد:٨].
وأيضًا قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [يوسف:١٩]، (ما) هنا من الأسماء المبهمة، قال العلماء: (ما): أصل من أصول العموم، يعني: كل ما تعملون.
وأيضًا قال الله تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:٥٩]، فإن الله جل في علاه قد علم كل شيء، وبهذه المرتبة تستطيع أن ترد على المعتزلة، قال الشافعي: خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا، وإن أنكروا فقد كفروا.
فهنا الإمام الشافعي يبين لنا أهمية هذه المرتبة في الرد على المعتزلة بقوله: خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا، وإن أنكروا فقد كفروا، وهذه المقولة تحتاج لتفسير صحيح.
قال: (خاصموهم بالعلم)، فإن المعتزلة يقولون: القدر أنف، ولا يوجد شيء كتب قبل ذلك، والله جل في علاه لا يعلم شيئًا حتى يعمله العباد، فلا يعلم شيئًا مستقبلًا أبدًا، ولا يعلم إلا ما مضى فقط، هذا قولهم والعياذ بالله! فقال الشافعي: خاصموهم بالعلم، فإذا أقروا بأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا فقد خصموا؛ لأن لله علمًا، والإرادة تخضع لعلم الله جل في علاه، فأراد وخلق أفعالهم، وبهذا يكون المعتزلة قد خصموا، ولا يمكن أن يحتجوا عليكم بشيء بعد ذلك، أما إذا أنكروا علم الله، وهذا كان في المعتزلة قديمًا، أما الذين في عصورنا الآن فيستحيون من ذلك، ولا يستطيعون إنكار العلم، ولكنهم ينكرون الخلق، فهم يقرون بالعلم، وينكرون الخلق، كما سنبين في المسائل المهمة في الرد على المعتزلة، والغرض المقصود خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا؛ لأن الله علم فأراد، والإرادة تخضع للعلم، وإن أنكروا كفروا؛ لأن من أنكر صفة العلم فقد كفر.
لكن نذكر هنا حديثًا ظاهر يشكل على ما قلنا، فلا بد من توضيحه، والحديث هو: (قام النبي ﷺ ليلًا، وذهب إلى البقيع يدعو لأهل البقيع، فغارت عائشة لما وجدت النبي ﷺ انسل من جانبها، فأخذت بثيابها وذهبت خلفه يسرع فتسرع، وهي ظنت أنه ذاهبٌ إلى بعض نسائه، فوجدته قد ذهب إلى البقيع يرفع يديه ويدعو لأهل البقيع، فنظرت للنبي ﷺ فوجدت ذلك، فاستدارت وأسرعت إلى البيت، فأسرع النبي ﷺ وهي تسرع، حتى دخل عليها وصدرها يعلو وينخفض، فقال لها النبي ﷺ: ما لك يا عائش حاشية يا رابية، أي: عندك ربو، ما بك؟ فقالت له: يا رسول الله! الأمر كذا وكذا، فقال لها: أخبريني أو ليخبرني العليم الخبير، فقالت يا رسول الله)، وجه الإشكال هو: (قالت: يا رسول الله! أويعلم الله ما نكن في صدورنا؟ فوكزها النبي ﷺ، وبين لها أن الله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهنا عائشة ﵂ وأرضاها ما كانت تعلم أن الله جل في علاه يعلم ما تخفي الصدور، وقالت: أويعلم الله ما نكن في صدورنا؟ وما كفَّرها النبي ﷺ ولا اشتد عليها، بل علمها أن الله جل وعلا يعلم ما في الصدور، ونحن قلنا: إن المعتزلة إذا أنكروا علم الله كفروا، فكيف نحمل كلام عائشة ﵂؟
الجواب
القياس على عائشة قياس فاسد؛ لأن الشافعي قال: جادلوهم وبينوا لهم، أقيموا عليهم الحجة، فمحل النزاع بأن هذا كفر أو ليس بكفر إنما هو بعد إقامة الحجة، وهنا قد أقيمت عليهم الحجة فأنكروها، لكن عائشة ما أنكرت، علمها النبي ﷺ فأقرت بما علمها النبي ﷺ، فلا إشكال هنا.
إذًا: نحن نبين للمعتزلة علم الله جل في علاه السابق واللاحق، فإن أقروا أخذنا بكلامهم، وإن أنكروا كفروا بذلك، وأيضًا لا بد من التفريق بين كفر النوع وكفر العين، فهذه المرتبة الأولى وهي علم الله الذي أحاط بكل شيء، وأن الله جل في علاه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذه تجمعها آية واحدة قالها موسى لهذا الخصم اللدود فرعون عندما قال في سورة طه: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى﴾ [طه:٤٩ - ٥٢] أي: لا يضل ربي فيما يستقبل، ولا ينسى فيما سبق، وقد سبق علم الله جل في علاه في ما كان، ولذلك قص علينا ما حدث من الجن قبل آدم، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة:٣٠]، وأيضًا قص الله علينا ما حدث بين الملائكة وبين آدم عندما عطس آدم، وقال: الحمد لله، وأيضًا لما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر، وقص علينا أيضًا ما حدث مع نوح وقومه، وقص علينا قصة موسى وقومه، فإن ربي لا ينسى علم ما كان، ويعلم ما يكون، والذي لم يحدث يعلمه الله جل في علاه، وهذا يتجلى معنا في الأحاديث النبوية والآيات الكريمات، كقول الله جل في علاه: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [الفتح:٢٧]، وهذا في المستقبل، فإن النبي ﷺ بعدما رد في صلح الحديبية عن البيت قال الله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [الفتح:٢٧]، وأيضًا قال النبي ﷺ وحيًا من ربه جل في علاه: (لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه)، وهذا أيضًا في المستقبل، فالله قد علم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.
وهذا أيضًا يتجلى في الممكن والمستحيل، أما في الممكنات فقال الله تعالى عن الكافرين أو المنافقين: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال:٢٣]، وهذا لم يحدث، لكن الله بين أنه لو حصل أو حدث كيف ستكون كيفيته وكينونته؟ أيضًا قال الله تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لهَمْ﴾ [التوبة:٤٧]، وهذا أيضًا لم يكن، لكن الله يعلم أنه لو كان كيف سيكون، فالله جل وعلا جعل التقاعس على أهل النفاق فلم يخرجوا مع رسول الله ﷺ، لكن لو خرجوا، فإن الله يعلم كيف كان سيكون الحال، وقص الله علينا ذلك وقال: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة:٤٧].
هذا في الدنيا، وكذلك في الآخرة، فإن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، قال الله عن أهل النيران بعدما وقفوا على النار: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام:٢٧]، فهذا لم يحدث، لكن لو حدث، والله جل وعلا قضى أن يخرجوا إلى الدنيا مرة ثانية، فهل سيكونون من أهل الحق، ويؤمنون بالله جل في علاه؟ الله جل وعلا يقول: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام:٢٨]، فالله علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذا في المستحيل في الآخرة، والذي سبق في الممكن في الدنيا.
فالآية التي تكلمت عن المنافقين ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة:٤٧]، هي في الممكنات، أما الآية: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام:٢٧] في الآخرة، ويستحيل أن يرجع أحد للدنيا، فهي في المستحيلات.
مثال آخر وهو حديث جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال له: (أرأيت ماذا قال ربك لأبيك عندما قال له: تمن؟ قال: أرجع إلى الدنيا فأقتل فيك)، فقضى الله جل وعلا أنه لا يرجع أحد إلى الدنيا، فهذا ممكن ولا يستحيل على الله، ومن المستحيلات ما قال الله تعالى عنه: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء:٢٢]، هذا في المستحيلات، فيستحيل أن تجد للكون إلهًا إلا الله وحده لا شريك له، ولو كان في الكون أكثر من إله، فقد بين الله لنا أنه سيحدث الفساد المستشري، فقال الله تعالى: ﴿لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون:٩١]، وقال: ﴿لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ س
1 / 6
مرتبة الكتابة ومراحلها
المرتبة الثانية التي يستقيم بها إيمان العبد بالقدر: مرتبة الكتابة، فإن الله علم فكتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، كما في الصحيح عن النبي ﷺ قال: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال وما أكتب؟ قال: ما هو كائن) يعني إلى يوم القيامة.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء:١٠٥]، والذي أوحي إليه الزبور هو داود ﵇، وقد كتب الله فيه أن الأرض يورثها الله لمن شاء من عباده الصالحين، وتلك الكتابة في الزبور كانت بعدما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
وقال أيضًا: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة:٧٧ - ٧٨]، والكتاب المكنون يقصد به: اللوح المحفوظ.
أيضًا قال في سورة البروج في آخر آية: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج:٢١ - ٢٢]، فقد كتب الله كل شيء، وهذه الكتابة هي الكتابة الأزلية العامة، وهي كتابة في الأثر.
إن مرتبة الكتابة إذا آمن بها العبد لا بد أن يعلم أن لها أربعة مراحل: أولًا: الكتابة أزلية: وهذه هي المرادة من قول النبي ﷺ: (لما خلق الله القلم قال له اكتب).
ثانيًا: الكتابة العمرية.
ثالثًا: الكتابة العامية: وهي مأخوذة من العام، أي: سنوية.
رابعًا: الكتابة اليومية.
إذًا: الإيمان بمرتبة الكتابة: هو أن يعلم المؤمن بأن الله جل وعلا قد كتب كل شيء وقدر كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة كما في حديث القلم، وهذه هي الكتابة الأزلية، وقد تكلمنا عنها وقلنا: إنها هي المذكورة في حديث القلم.
والكتابة العمرية: دليلها حديث الصحيحين عن ابن مسعود ﵁ وأرضاه: (يجمع الجنين في بطن أمه أربعين يومًا) ثم تلا الحديث إلى آخر الأربعة الأشهر، أو المائة وعشرين يومًا إلى أن قال: (فيأتي الملك فيؤمر بأربع كلمات: ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، أجل ورزق) إذًا: يؤمر الملك بكتابة أربع كلمات، بكتب الرزق والأجل وكَتْبِ الشقاء أو السعادة وكَتْبِ النوع، والإيمان بهذه الكتابة يحل إشكالات عظيمة جدًا منها: الإشكال الذي طرحه لنا عمر بن الخطاب عندما طاف حول الكعبة وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت قد كتبتني عندك شقيًا فامحها واكتبني سعيدًا، مع أن الله جل وعلا قد بين أن ما كتب في اللوح المحفوظ لا يمكن أن يغير، فما فقه عمر الذي جعله يقول ذلك؟ قال الله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد:٣٩]، فالإيمان بهذه الكتابة يحل لك هذا الإشكال.
وهذه الكتابة إما أن تكون في اللوح المحفوظ، وإما أن تكون في صحف الملائكة، فهي تحتمل ذلك، وقد فقه عمر وهو يقول: اللهم امحها واكتبني عندك سعيدًا فقرأ قول الله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ [الرعد:٣٩] أي: في صحف الملائكة ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد:٣٩]، وهو الأصل الذي لا يغير، لكن الذي يغير هو ما في صحف الملائكة.
وقد قال ابن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، فنقول دائمًا: إن هذا الشقاء الذي كتب في صحائف الملائكة هو الذي يمكن أن يغير، حتى لا يتقاعس أحد ويقول: قد وقعت في المعصية، والله قد كتب ذلك وأنا في بطن أمي، فنقول له: قل ما قاله عمر: اللهم إن كنت قد كتبتني أي: في صحف الملائكة شقيًا فامحها، واكتبني عندك يعني: في اللوح المحفوظ سعيدًا.
الكتابة الثالثة: كتابة عامية: وهذه أيضًا يمكن أن تحل لنا إشكالًا آخر، ألا وهو: إذا قدر الله المصيبة فهل من الممكن أن تُرفع بالدعاء أم ليس ذلك ممكنًا فيرضى بها؛ لأن هذا قدر الله عليه؟
الجواب
إن المصيبة ترفع بالدعاء، والدليل على ذلك إخبار النبي ﷺ بأن الدعاء والقدر يتعالجان في السماء حتى يرد الدعاء القدر، مع العلم أن القدر قد كتبه الله في لوحه المحفوظ، ومن ضمن ما كتب في اللوح المحفوظ أن البلاء إذا نزل فإنه يرتفع بالدعاء، وأيضًا إن الذي يغير إنما هو ما في صحف الملائكة، ولا إشكال في ذلك بفضل الله ﷾.
وهذه الكتابة أخذت من تفسير ابن عباس لقول الله تعالى عن ليلة القدر: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان:٤]، قال ابن عباس: يفرق أي: يكتب السعيد والشقي في هذا العام، ويكتب الرزق في هذا العام، ويكتب الحاج في هذا العام، ويكتب الأجل في هذا العام، فتكون هذه كتابة عامية.
الكتابة الرابعة: كتابة يومية: وهذه عند تعاقب الملائكة كما في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، فيلتقون في صلاة الفجر وصلاة العصر)، فتكتب الملائكة من صلى الفجر في جماعة، ومن صلى العصر في جماعة، ومن عمل حسنة في ذلك اليوم، أو عمل سيئة في ذلك اليوم.
1 / 7
مرتبة الخلق والرد على المخالفين فيها
ومن مراتب الإيمان بالقدر: مرتبة الخلق، وقد سبق أن قلنا: إن الله قد علم فكتب فشاء فخلق، وهذه المرتبة تعني: خلق الله لكل شيء، وفيها رد على المعتزلة الذين يرون أنهم قد خلقوا أفعالهم، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد:١٦]، و(كل) نص في العموم يدخل فيها أفعال العباد، وتدخل فيها المعاصي، ولكن تنسب إلى الله جل في علاه خلقًا وإيجادًا، وما خلقه الله من فعله فهو كمال له، وتنسب للعبد فعلًا واكتسابًا، فالله خالق كل شيء، قال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان:٢]، ويدخل في ذلك فعل العبد.
قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات:٩٦]، وجاء في الحديث الصحيح عن نبينا ﷺ أنه قال: (إن الله قد خلق كل صانع وصنعته)، فهذا يدل على أن فعل العبد أيضًا مخلوق لله جل في علاه.
فهذه أربع مراتب لا يمكن لعبد أن يتقن أبواب القدر، أو يلج أبواب القدر المشكلة جدًا إلا أن يؤمن بهذه المراتب الأربعة.
وتتعلق بهذه المراتب الأربعة نتائج كثيرة منها: هل القدر حجة للعاصي؟ أيضًا احتجاج آدم وموسى كان الحق فيه مع من؟ وهل يستنبط من ذلك مسائل تحتج بها القدرية أو الجبرية؟ ومسائل أخرى سنتعرض لها لاحقًا بإذن الله تعالى.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيرًا.
1 / 8
الإرادة الشرعية والإرادة الكونية
من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأن تؤمن أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، والقدر سر الله في الخلق، وإرادة الله الحق، فمن آمن بالقدر وسلم، وانقاد واستسلم، زاد إيمانه، وصفا عيشه، وأنير طريقه، ولم يحزن على ما فات، وبهذا يتحقق المعنى الحقيقي للاستسلام لرب الأرض والسماوات.
2 / 1
أهمية الإيمان بالقدر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد بينا بأن القدر هو سر من الغيب لا يعلمه إلا علام الغيوب، لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وقلنا: إن القدر من لوازم الربوبية، ولا يستقيم إيمان عبد حتى يتعلم مسائل القدر ويوقن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهو ركن ركين من أركان الإيمان الستة التي ذكرها النبي ﷺ في حديث جبريل الطويل.
2 / 2
طوائف الناس في القدر
الناس في القدر ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: محضت النظر للقدر، فضربت به الشرع وألغته، وهؤلاء هم الجبرية، الذين احتجوا بالقدر على كل معصية يفعلونها.
الطائفة الثانية: محضوا النظر للشرع، فضربوا به القدر، وقالوا: الأمر أُنُف، وهؤلاء هم القدرية، الذين ألغوا القدر ولم يقروا بقدرة الله جل في علاه، فنصبوا أنفسهم أربابًا مع الله جل في علاه.
الطائفة الثالثة: وسط بين الطائفتين، قالت: ننظر إلى الشرع بعين الشرع، وننظر إلى القدر بعين القدر، ونوفق بين الشرع وبين القدر، فلشهود القدر أحوال، ولشهود الشرع أحوال، ولا يضرب هذا بذاك.
2 / 3
مذهب أهل السنة في الاحتجاج بالقدر
فإن قال قائل: متى ينفع شهود القدر ومتى لا ينفع شهود القدر؟ نقول: شهود القدر هو قولك عندما تنزل عليك البلايا أو المحن: قدر الله وما شاء فعل.
فشهود القدر هنا ينفع المرء في حالتين، ولا ينفع في حالة ثالثة، وهذا عند أهل السنة والجماعة.
الحالة الأولى: تمحض المصيبة دون أدنى تدخل منك، إذ المصائب تأتي على نوعين: النوع الأول: مصائب بسبب الإنسان، أي: بسبب تفريطه وتقصيره ومعاصيه، كما قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيَ الْنَّاسِ﴾ [الروم:٤١]، والباء هنا سببية، وقول النبي ﷺ في الحديث القدسي: قال الله تعالى: (فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، أي: أنه المتسبب في إتيان هذه المصيبة، فلا يصح له شهود القدر إلا في مرحلة سنبينها لاحقًا.
النوع الثاني: المصائب بسبب الأقدار لا من الإنسان، فعند تمحض المصيبة والبلية مع الأخذ بالأسباب الصحيحة السديدة من المكلف، فهذا له أن يشهد القدر ويحتج بالقدر، ويحيل الأمر برمته على تصرف ربه جل في علاه، مؤمنًا بقدرة الله التي هي من لوازم ربوبية الله جل في علاه؛ قال الله تعالى مصورًا لنا ذلك تصويرًا بديعًا: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [التغابن:١١]، أي: ما من بلية ولا مصيبة تنزل على العبد إلا بإذن الله ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ [التغابن:١١]، أي: يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن الله جل في علاه هو الذي كتب المصيبة في الأزل، وأن الله قادر على أن يوجدها فأوجدها.
﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:١١] يعني: يثبت الإيمان في جنانه، وهو الإيمان بقدر الله جل في علاه.
فهذه دلالة على أن المصيبة المتمحضة التي نزلت على العبد إذا أحالها على قدرة الله وأحالها على القدر ينفعه ذلك عند ربه جل في علاه.
ويجلي لنا ذلك النبي ﷺ تجلية واضحة جدًا في الحديث الذي في الصحيحين قال: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، يعني: لو أخذت بالأسباب الشرعية الصحيحة، وأصبتَ بمصيبة متمحضة لحكمة يعلمها الباري، فهنا يقول لك ﷺ: (لا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، وذلك لأنك ستفتح باب الشيطان، (لكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
أضرب لكم مثلًا: لو أن طالبًا ذاكر مادة اللغة، ودخل الاختبار فوجدها رياضيات، أخطأ في قراءة الجدول، فلو قال في نفسه: لو أني اتصلت بزميلي لقال لي: غدًا امتحان مادة كذا، هنا النبي ﷺ يقول له: (لا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا)، مع أنه لو اتصل بصاحبه وقال له: مادة ماذا غدًا؟ لقال له: مادة اللغة أو مادة الرياضيات، فهنا له أن يشهد القدر لأنه أخذ بالأسباب، وليس له أن يقول: لو كان كذا لكان كذا.
إذًا: فالطائفة الوسطية قالوا: نحن لم نمحض النظر في القدر ولم نمحضه في الشرع، وإنما ننظر بعين القدر حينما يكون القدر نافعًا إذا نظرنا إليه، وننظر بعين الشرع حينما يكون الشيء مأمورًا به.
فإن قيل لهم: هذا التفصيل البديع الذي فصلتموه، من أين أتيتم به؟ أو اذكروا لنا مثالًا حتى نعلمه؟ قالوا: مثال النظر بعين القدر: إذا نزلت المصيبة بعد الأخذ بالأسباب الصحيحة يصح لك أن تقول: ربي فعل بي ذلك، وأنا شاكر له وراض عنه، أو صابر على قدره.
وأما مثال النظر بعين الشرع، فلا بد أن أعلم أن هذا الشيء إما أن يكون مأمورًا بفعله، أو منهيًا عنه، فأعمل العمل وفقًا للأمر والنهي.
أما قول النبي ﷺ: (المؤمن القوي)، يعني: الذي يأخذ بالأسباب، وقوله: (اعقلها وتوكل) يعني: الذي يأخذ بالأسباب، والنبي ﷺ هو أتقى الناس وأقواهم يقينًا بربه، ومع ذلك عند الهجرة أخذ دليلًا خريتًا ماهرًا، وكان يعمي على الناس إذا أراد غزوة؛ لأنه يعلم أن المؤمن القوي هو الذي يأخذ بالأسباب مع الاعتقاد الجازم بأن الله هو مسبب الأسباب (وفي كل خير، احرص على ما ينفعك)، هذا أمر، فبعد أن جاء بالخبر: (المؤمن القوي)، جاء ليؤكد الخبر بالأمر.
قوله: (احرص على ما ينفعك)، يعني: خذ بالسبب، وقوله: (فإن أصابك)، يعني: إذا أديت ما عليك بعين الشرع، الذي هو الأمر والنهي، وأخذت بالأسباب وجاءت المصيبة (فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل)، في هذه الحالة ينفعك شهود القدر، وتقول: ربي فعل بي ذلك وأراد بي ذلك، وأنا وقف لله، يفعل بي ما يشاء، فتقول: (قدر الله وما شاء فعل).
إذًا: فشهود القدر ينفع بعد أن يأخذ الإنسان بالأسباب، لا أن يعصي الله أو يزني ثم يفتح باب القدر ويقول: ليس لي فعل، بل الله هو الفاعل.
الحالة الثانية عند أهل السنة في شهود القدر: قالوا: حتى بعد المعصية، ومثال ذلك: رجل زنى، وبعد أن زنى، قال: أذهب ليقام عليّ الحد فسمع وهو يسير قارئًا يقرأ قول الله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان:٧٠]، فقال: ولم لا أكون كذلك؟! فإذا به يبكي ويتضرع وينكسر ويتذلل ويتوب إلى الله جل في علاه ويئوب، فلما تاب إلى ربه من هذه المعصية، جاء صباحًا يصلي الفجر، فقام إليه رجل رآه يزني وقال له: أما كنت تزني بالأمس؟ وعيره بذنبه، فله هنا أن يقول: لا والله، قدر الله علي هذا الزنا، وأنا تائب منه، فله أن يشهد القدر.
إذًا: الحالة الثانية: إذا تاب من الذنب فله أن يشهد القدر، فإن قيل: كيف يشهد القدر وهو زان، وهو الذي فرط، والنبي ﷺ يقول: (المؤمن القوي)، نقول: لأنه بعدما تاب رجع إلى القوة، ومن تاب تاب الله عليه، و(التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، إذ أن التوبة والأوبة من أسباب القوة، كما قال النبي ﷺ: (وإذا أسأت فأحسن)، وقال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، فهو أتبع هذه السيئة الحسنة فمحتها، ولما جاء عمرو بن العاص يبايع النبي ﷺ، قال: (ابسط يدك، فبسطها ثم قبضها، قال: علام؟ قال: أشترط، قال: وما تشترط؟ قال: أشترط مغفرة الذنوب، فقال له النبي ﷺ: أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها؟!)، فالتوبة تجب كل ما قبلها، وهو قد أخذ بالأسباب القوية التي بها يقول: قدر الله وما شاء فعل.
ويدل على ذلك فعل أبينا آدم ﵇؛ لأن آدم تاب من الذنب، قال ﷿: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة:٣٧]، فلما تاب قال لموسى: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة، فاحتج هنا بالقدر؛ لأنه قد تاب، وتاب الله عليه.
2 / 4
عدم جواز الاحتجاج بالقدر مع عدم الأخذ بالأسباب
وأما الحالة الثالثة التي لا يصح له أن يشهد القدر فيها: فهي التفريط مع عدم الأخذ بالأسباب، فليس له هنا أن يشهد القدر، ويحتج به؛ لأن هذا هو قول الجبرية الذين ضربوا الشرع بالقدر.
نضرب مثلًا: لو أن رجلًا لعب طوال الليل بالأتاري، وكان في أمر مباح من الساعة العاشرة إلى الساعة الثانية ليلًا، ثم نام حتى ضاعت عليه صلاة الفجر، فلما قام صباحًا، جاءه أخوه فقال: أين كنت؟ لم نرك في صلاة الفجر؟ أكنت مريضًا؟ قال: لا والله، بل كنت نائمًا وهذا عذر لي؛ لأن النبي ﷺ قال: (ليس في النوم تفريط)، وقد قال الله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:٢٨٦]، وقال الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:١٦]، قال: وأنا اجتهدت للاستيقاظ في الفجر فما استيقظت، وروحي بيد المليك المقتدر يقبضها حيث يشاء ويرسلها حيث يشاء، فنقول له: إن أصحاب العقائد لا يرضون بكلامك ولا يرضون باحتجاجك بالقدر، قال: قد احتج من هو أفضل مني بالقدر، قلنا: من؟ قال: علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت النبي ﷺ، وذلك حين مر عليهما رسول الله ﷺ وقال: (أما قمتما من الليل تصليان؟ فقال علي: أرواحنا بيد الله إن شاء قبضها وإن شاء أرسلها، فولى النبي ﷺ وهو يضرب على فخذه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا»).
نقول له: هذا المثل أنت منازع فيه، فهل عندك مثل آخر؟ قال: عندي مثل آخر، وهو آكد من الأول؛ لأنه من فعل رسول الله ﷺ نفسه، قلنا: كيف ذلك؟ قال: جاء في الصحيح: (أن النبي ﷺ سافر ومعه أصحابه، فأتعبهم السفر في الليل، فقام النبي ﷺ وقال: من يحرس لنا الفجر هذه الليلة؟ فقام بلال فقال: أنا قائم عليكم -يعني: أنا الذي سأوقظكم في الفجر- فنام النبي ﷺ ونام الصحابة فنام بلال وغلبته عيناه، وما قام النبي ﷺ حتى أشرقت الشمس، وما أيقظ عمر إلا حرُّ الشمس، فذهب فزعًا إلى رسول الله فأيقظه، فقام النبي ﷺ فأيقظ أصحابه، وكادوا يموتون، يقولون: لم نصلِّ الفجر في وقته؟! ورسول الله لم يصل الفجر في وقته؟! فقال النبي ﷺ محتجًا بالقدر: أرواحنا بيد الله يمسكها كيف يشاء أو حيثما شاء، ويرسلها حيثما شاء، انطلقوا من هذا الوادي؛ فإن في هذا الوادي شيطانًا، فانطلقوا ثم توضئوا ثم صلوا بعد ذلك الفجر).
وأنا أحتج بما احتج به النبي فأقول: روحي بيد الله! إن شاء أرسلها وإن شاء قبضها سبحانه جل في علاه.
وقياسه على فعل النبي ﷺ قياس مع الفارق؛ لأن النبي ﷺ نهى عن السمر بعد العشاء، وأنت سمرت بعد العشاء، وضيعت الوقت، ولم تستيقظ الفجر بفعلك أنت، وبمعصيتك أنت، فليس لك أن تشهد القدر هنا؛ لأن القدر ليس حجة للعاصي، فليس للسارق أن يقول: سرقت بقدر الله، وليس للزاني أن يقول: زنيت بقدر الله؛ لأن النبي ﷺ فرق بين القوي وبين الضعيف، فالقوي محمود، لكن الضعيف مذموم، والضعيف هو الذي لم يأخذ بالأسباب الشرعية.
الأول: أن الله جل في علاه قد أثاب على فعل العبد وعاقب عليه، ونسب الفعل للعبد، قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم:٤١]، وقال الله تعالى: ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الجاثية:٢٢]، وقال تعالى أيضًا: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الواقعة:٢٤]، فجعل العمل هو الذي يثاب عليه المرء أو يعاقب عليه، فليس له أن يحتج بالقدر، بل بفعله يحمد أو يذم.
الأمر الثاني: أن الأمر الاختياري والأمر الاضطراري معروف جدًا بين الناس، فلو قلت لرجل الآن: مكتوب في اللوح المحفوظ أنك ستلقي بنفسك من الشباك، فإذا وقع على رأسه قال: قدر الله وما شاء فعل، فهذا غير مقبول.
كذلك: لو أن رجلًا سرق مال رجل، فوجده صاحب المال فقال له: سرقت مالي، فقال: يا أخي! ألا تؤمن بعقيدة نبيك ﷺ؟ ألم تعلم أن الله قدر علي أن أسرق مالك؟! قال: نعم، قدر الله أن تسرق عليَّ المال، فقام وضربه على وجهه، وقال له: قدر الله أن أضربك على فعلك هذا.
ونذكر قصة مشهورة جدًا، تبين علة من يحتج بالقدر على المعصية، وهي قصة المرأة التي كانت من الجبرية ومعها زوجها، فدخل الزوج ذات مرة فوجد عليها رجلًا آخر، فقال: فأخذ السيف ليقتل هذا الرجل، فقال له وكان على عقيدته: مهلًا، والله ما وقعت عليها إلا بقدر الله، فقال: آمنت بالله.
فقالت المرأة: والله إن هذا لمذهب سوء، ولا يمكن لي أن أتبنى هذا المذهب.
فأصبح ديوثًا بالاحتجاج بالقدر.
ولما جيء بسارق إلى عمر بن الخطاب قال: (اقطعوا يده، فقال: مهلًا يا أمير المؤمنين! والله ما سرقت إلا بقدر الله.
فقال عمر ﵁: ونحن والله لا نقطع يدك إلا بقدر الله جل في علاه).
2 / 5
المفاسد العظيمة المترتبة على الاحتجاج بالقدر على المعاصي
والاحتجاج بالقدر على المعاصي فيه مفاسد عظيمة، وهي مخالفة لظواهر الشرع، فمنها: أنها تبطل الرسالات، فإذا قلت بأن القدر حجة للعاصي، فما فائدة إرسال الرسل؟! والله جل وعلا قد بين العلة من إرسال الرسل؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وهم يقولون: إنس الحجة موجودة: قدر الله وما شاء فعل، فهذا المذهب فيه مخالفة صريحة لأمر الله جل في علاه.
2 / 6
مدافعة القدر
إن مدافعة الأقدار تكون بالأقدار، فلا يصح أن تقول: المرء لا يرضى بالقدر مطلقًا، ولا يصح أن تقول: يرضى بالقدر مطلقًا، بل له أن يرضى بالأقدار ويدافعها بالأقدار؛ لأن عدم الرضا بها مطلقًا، هو قول القدرية، والرضا بها مطلقًا، هو قول الجبرية، وأهل السنة والجماعة وسط، فيقولون: لا يصح أن نقول: مطلقًا، ولا يصح أن نقول: لا يرضى بها مطلقًا، بل له أن يرضى في أحايين، ويدافع في أحايين؛ لأن قدر الله على نوعين: قدر أنزله الله جل في علاه وأنزل معه قدرًا آخر يدفعه، وقدر أنزله الله ولا يوجد ما يدفعه، فيقولون: لا نرضى بالقدر حينما نرى القدر الآخر الذي ندفع به، ونرضى به حينما لا نجد قدرًا آخر ندفع به.
وبالمثال يتضح به المقال: فالجوع قدر من أقدار الله، وأنزل الله لنا قدرًا آخر ندفع به هذا القدر، ألا وهو الطعام، فنحن نأكل لندفع قَدَرَ الجوع بقدر الطعام.
أيضًا: العطش، فإنا ندفع قدر العطش بقدر الشراب، وهذا من باب قوله ﷺ: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء).
إذًا: يصح أن تدافع الأقدار قدر إمكانك كلما أتيح لك أن تدفع الأقدار، فمثلًا: إذا كنت في سفينة وكسرت السفينة، فليس لك أن تستسلم لوحوش البحار لتأكلك؛ لأن لك قدرًا آخر، وهو أن تأخذ خشبة من السفينة أو تسبح إن كنت تستطيع أن تسبح.
وقد كنت ذات مرة أختبر، وكان اختباري هذا هو اختبار الماجستير، وكنت أختبر مواد كثيرة في وقت واحد، في حين أن كل الزملاء يمتحنون مادة واحدة، وكنت -والحمد لله- أخذ ثلاث مواد أو خمس مواد فأختبر فيها، وفي نفس المدة وهي ثلاث ساعات، وكان الدكتور عبد الله بركات وهو رجل عنده من العلم لكنه أشعري، وكان يخفي علي ذلك وهو يختبرني، فدخل علي وأنا أختبر ثلاث مواد في وقت واحد، فقال لي: أنت مثخن بالمواد، وما لك إلا الساعات الثلاث، وكل مادة تحتاج إلى ثلاث ساعات، فقلت له: أنا أختبر الثلاث المواد في ثلاث ساعات، لكن لا تكلمني، ولا أريد أن يكون بجانبي أحد، والقلم سيال فقط، فجاء قبل الموعد بعشر دقائق وأراد أن يأخذ الأوراق، فقلت له: نعم، ماذا تريد؟ قال: الورقة، انتهى الوقت ولم يبق إلا عشر دقائق، قلت له: آخذ العشر الدقائق، قال لي: لا، انتهى الوقت، قلت له: أنا لي الآن ثلاثة أيام ما نمت، فلا تتعبني وتضيع وقتي، وحدثت المشادة بيني وبينه، وبعد ذلك حدث الوفاق بحمد الله، فقال: أنت لست بطالب علم! فقلت له: لمه؟ قال: قدر الله قد نزل عليك، وعليك أن تقول: قدر الله وما شاء فعل، فقلت له: وربي لن أرضى بهذا القدر! فالرجل كاد أن يموت، فذهب وأتى بالدكتور الثاني فجاء وقال: ما هذا؟ فقلت له: يا أخي! تمهل لا تندهش، أنا لا أرضى بقدر الله، قال: كيف؟ قلت له: إن هذا قدر وقد أباح لي مدافعته الله جل في علاه، أنت الآن من قدر علي، تقول لي: أريد أن آخذ الورقة، وأنا أدفعك وأقول لك: من حقي أن تبقيني إلى آخر دقيقة، فأنا أدافع القدر بالقدر، فضربت له المثل وقلت له: هذا الجوع يدافع بالطعام، والغرق يدافع بالسباحة، فهذا قدر يدفع بالقدر، فأذعن الرجل بفضل الله وتركني.
وفي هذه الأبواب أنصحكم بقراءة كلام ابن القيم، فهذا الكلام ليس من كيسي، وليس من ذات نفسي ولا من ذكائي، بل أعوذ بالله! فالله جل في علاه هو من أطلعني على الفهم الذي أطلع عليه ابن القيم، فـ ابن القيم في كتاب (طريق الهجرتين) وكتاب (مدارج السالكين) أتى بنكت من هذه الأبواب وأبدع فيها، وغاص في كتابه (شفاء العليل)، لكن (شفاء العليل) من يقرأ فيه وليس عنده رسوخ في القدر، لن يفهم كثيرًا.
فإذا نزل بالإنسان داء فلا يقول: قدر الله وما شاء فعل، لأنه من قال ذلك فقد أخطأ في فهمه للقدر، بل هذا من الأقدار التي لا بد أن تدفع، قال النبي ﷺ آمرًا بمدافعة الأقدار: قال: (تداووا عباد الله! فإن الله ما أنزل من داء إلا أنزل له دواء)، فهذه مدافعة للأقدار بالأقدار، لكن هناك أمورًا وأقدارًا لا يمكن دفعها، ومنها: الموت، فالموت لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، فلا أحد يستطيع أن يرد تقدير الموت، فليس أمام الإنسان مع هذه الأقدار إلا الصبر، أما الصبر فهو الواجب فقط، والإحسان: هو أن ترضى بأقدار الله جل في علاه.
2 / 7
الإرادة الكونية والإرادة الشرعية والفرق بينهما وضابطهما
الإرادة إرادتان بالنسبة لله جل في علاه: إرادة شرعية، وإرادة كونية، والله فعال لما يريد، فما أراده الله كان وما لم يرده لم يكن، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام:١٢٥]، وقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة:٢٥٣]، فالإرادة هنا لله جل في علاه إرادتان: إرادة كونية، وإرادة شرعية، فالإرادة الكونية: هي كل ما قضاه الله جل في علاه، ولها ضوابط: الأول: أنها تقع فيما يحب.
الثاني: أنها تقع لا محالة، يعني: لا مرد لها، كالموت، والصحيح أن الموت مبغوض لله تعالى ولا يحبه لذاته، لكنه يحبه لغيره، فهو يحبه لأجل البعث فقط، فالموت مكروه، والدليل أن الله سماه مصيبةً، والمصائب لا تكون محمودة للإنسان، والله لا يحب الموت، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن!)، فالله يبغضه، لكن قد يكون الموت محبوبًا لله من وجه آخر؛ لما سيؤدي إليه وهو الخلود في الجنان، فالموت قضاه الله على عباده قضاءً كونيًا لا شرعيًا.
أما الإرادة الشرعية: فهي المحبة، وهذا هو الفارق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، فالإرادة الكونية تساوي المشيئة، والإرادة الشرعية قد تقع وقد لا تقع؛ لأنها خاصة فيما يحبه الله، ولا يمكن أن تكون فيما يبغضه الله جل في علاه، مثل: عبادة الله، فعبادة الله محبوبة لله شرعًا، وقد تقع وقد لا تقع، فليس كل أهل الأرض قد عبدوا الله جل في علاه، مع أنه أمرهم بالعبادة، قال الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء:٢٣].
إذًا: فالعبادة قضاها الله قضاءً شرعيًا لا كونيًا.
2 / 8
أمثلة وتطبيقات على الإرادتين: الشرعية والكونية
قال الله تعالى: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأعراف:١٨]، فالله تعالى لا يحب وجود الشيطان، وقدر وجوده، فهذه إرادة كونية، والكونية تكون كما هو في الضابط الثاني: أنها تقع لا محالة ولا يمكن أن تتخلف، فخلق الشيطان إرادة كونية لا شرعية.
وقال الله تعال: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام:١٢٥]، فلو أخذنا شطر الآية الثاني: «وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ»، لعلمنا أن الضلال ليس محبوبًا لله جل في علاه، وهذا هو الضابط الأول.
الضابط الثاني: أنه يقع لا محالة، فلو أراد الله إضلال عبد فلن يهديه أحد، والدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاء﴾ [القصص:٥٦]، فوقوع الضلال للعبد إرادة كونية.
يقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ﴾ [سبأ:١٤]، وقوله: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ [الإسراء:٤]، وقول الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء:٢٣]، وقوله تعالى: ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الزمر:٦٩].
فالآية الأولى والثانية القضاء فيهما كونيًا، أما القضاء في الآية الثالثة: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا﴾ [الإسراء:٢٣]، فهو قضاء شرعي.
قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء:١١٢] يمكن أن نقول: بأن فيها تفصيل: فإن كانت المسألة على الآخرة، فالحكم بالحق سيكون كونيًا لا منازع له، قال تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَهِ الْوَاحِدِ الْقهَّار﴾ [غافر:١٦]، وإن كان في الدنيا، فحكم الله بالحق سيكون شرعيًا، قد يقبل به الناس وقد لا يقبلون به، لكن من الممكن: أن ينازع منازع ويقول: هذا دعاء من النبي ﷺ: أن يحكم كونًا بالحق.
وقال الله تعالى: ﴿وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:٢٦]، فهذا يعتبر حكمًا شرعيًا؛ لأنه محبوب لله جل في علاه، والضابط الثاني: أنه قد يقع وقد لا يقع، أما رأيت كثيرًا من الناس يتحاكمون إلى غير الله جل في علاه؟ فقد يقع وقد لا يقع.
وقال الله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة:١٠]، فالحكم هنا شرعي؛ لأنه قد يقع وقد لا يقع.
وقال الله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود:١٠٧]، فهذا كوني؛ لأنه قد يُحِب وقد لا يُحِب، وهذا الضابط الأول، أما الضابط الثاني: فهو لا بد أن يقع، فما شاءه الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وقال الله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء:١٦]، الإرادة هنا كونية.
وقال الله تعالى: ﴿إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود:٣٤]، الإرادة هنا: كونية؛ لأن إغواء العباد لا يحبه الله، بل هو يحب هداية العباد.
وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة:١٨٥]، هنا الإرادة شرعية؛ لأن الله يحب ذلك، لكنها قد تقع وقد لا تقع.
وقال الله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة:٢١]، الكتابة هنا: كونية، وهي محبوبة لله جل في علاه.
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء:١٠٥]، الكتابة هنا: كونية، قد كتبها الله جل في علاه، وستكون لا محالة.
قال الله تعالى في سورة الحج: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج:٤]، الكتابة هنا: كونية؛ لأن الإضلال لا يحبه الله، وهي تقع لا محالة؛ لأنه من اتخذ الشيطان وليًا من دون الرحمن أضله الله جل في علاه.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَقُوْنَ﴾ [البقرة:١٨٣] الكتابة هنا شرعية.
قال الله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ [النساء:٢٣] إلى قوله تعالى: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء:٢٤]، يعني: كتب الله عليكم، وهذا الكتاب: كتاب شرعي؛ لأنه قد يقع وقد لا يقع.
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:٨٢]، الأمر هنا: كوني، ولا بد أن يقع.
وقال الله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر:٥٠]، الأمر هنا: كوني، ولا بد أن يقع.
وقال الله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [النساء:٤٧] الأمر: كوني أيضًا.
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل:٩٠] هنا الأمر: شرعي.
وقال الله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة:١٠٢]، الإذن هنا: كوني؛ لأن الله لا يحبه.
وقال الله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [الحشر:٥]، الإذن هنا شرعي.
وقال الله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس:٥٩]، الجعل هنا في قوله: «فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا»، من أفعال البشر لا من أفعال الله، فلا يسمى كونيًا ولا شرعيًا؛ لأننا نتكلم عن أفعال الله تعالى.
وقال الله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:٢١]، الإذن هنا: إذن شرعي؛ لأنه قد يقع وقد لا يقع.
وقال الله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ﴾ [المائدة:١٠٣]، الجعل هنا: شرعي.
وقال الله تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ [المائدة:٩٧]، الجعل هنا: شرعي.
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ﴾ [يس:٨]، الجعل هنا: كوني.
وقال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس:٣٣]، الكلمة هنا: كونية، لكن قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف:١٣٧]، الكلمة هنا: كونية؛ لأن كلمة الله إذا قالها فلا بد أن تقع، فتكون كونية.
وقال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ [التوبة:٦]، الكلمة هنا: شرعية؛ لأن المشرك سيسمع الكلام وقد يؤمن وقد لا يؤمن، فقد تقع وقد لا تقع.
2 / 9
أصناف الناس في الإرادة الشرعية والكونية
وأصناف الناس بالنسبة للإرادة الكونية والإرادة الشرعية أربعة: الصنف الأول: وافق الشرع والقدر، وهذا هو إيمان المؤمن، أما موافقته الشرع؛ فلأن الله قد أمر بالإيمان فقال: ﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ [آل عمران:١٩٣]، فأمرهم شرعًا، وهو محبوب لله جل في علاه، أما موافقته القدر؛ فلأن الله كتب في اللوح أنهم من المؤمنين، كإيمان أبي بكر، فـ أبو بكر وافق الشرع والقدر.
الصنف الثاني: خالف الشرع والقدر، وذلك مثل كفر المؤمن، يعني: لو كفر واحد من الصحابة فقد خالف الشرع والقدر؛ لأن الله يحب إيمانه، وهو قد آمن وكفر، لكن هذا لا يحدث أبدًا.
الصنف الثالث: وافق الشرع ولم يوافق القدر، وذلك كإيمان أبي جهل، فإيمان أبي جهل وافق الشرع، يعني: أمر الشرع له بالإيمان، لكن القدر خالف ذلك وكتب وختم عليه عند ربه أنه من الكفار.
الصنف الرابع: وافق القدر وخالف الشرع، وذلك مثل: كفر الكافر، فكفره موافق للقدر؛ لأن الله كتب وختم عليه أنه كافر إلى يوم القيامة، وخالف الشرع؛ لأن الله أمر الناس عامة بالإيمان والعبادة له، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]
2 / 10
حكم قتل المستأمنين
المستأمن هو الكافر -يهوديًا كان أو نصرانيًا أو غير ذلك- الذي أخذ الأمان بدخول دار الإسلام من ولي الأمر أو آحاد المسلمين، وهو هذه الأيام يختص بولي الأمر فقط، ومن صوره المنتشرة هذه الأيام التأشيرة على الجواز، وقد حرم الله تعالى دم المستأمن وماله وعرضه، وهذه الحرمة ثابتة بالكتاب والسنة والعقل وأفعال الخلفاء والصحابة وأهل العلم على مر الزمان، فلا يحل لأحد أن يتعدى عليه في عرضه أو ماله أو دمه.
3 / 1
قدر الله الكوني في تقسيم الناس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فلا شك أن الله جل في علاه خلق الخلق وقدر كونًا أنهم سينقسمون إلى قسمين: مؤمنين وسيكونون في موضع، وكافرين وسيكونون في موضع آخر، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن:٢] فجعل الناس على قسمين: كافر ومؤمن، وهذا قدر كوني من الله جل في علاه، وهناك أحكام تتعلق بالكفار وأحكام تتعلق بالمسلمين.
3 / 2