حكم إنشاد المديح في الرسول ﷺ
السؤال
هل صحيح ما يقال في الرسول ﷺ:
لو أبصر الشيطان طلعة نوره في وجه آدم كان أول من سجد
هذا سمعته من بعض المنشدين، فما حكم الإنشاد والمديح هذا؟
الجواب
البيت المذكور لا شك أنه ضلال، لا يجوز إنشاده، فضلًا عن مدح الرسول به؛ لأن مدحك للرجل بالباطل هو طعن في الواقع فيه، سواء شاء هذا المنشد أو أبى؛ لأنك إذا مدحت إنسانًا بما ليس فيه، فكأنك تعني أن هذا ليس فيه من الممادح الحقيقية القائمة فيه حتى نمدحه بها؛ لذلك نحن نختلق من عند أنفسنا أشياء نمدحه بها، ورسول الله ﷺ ليس كذلك، فقد اصطفاه الله ﷿ لنبوته ورسالته، وخلَّقه بالأخلاق الكاملة، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:٤] .
فليس هو ﵊ بحاجة إلى أن يمدح بمثل هذه الأباطيل، لا سيما وفي السنة الصحيحة -قسم منها متواتر، وقسم دون ذلك، وكله صحيح- ما يمكن للمسلم أن يمدح الرسول ﵊ به، أما أن يأتي إلى مثل هذا المديح الباطل، فهذا غلو في الدين، والله ﷿ قد حذرنا بتحذيره أهل الكتاب من الغلو في الذين فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ [النساء:١٧١] .
وقال ﵊ موجهًا نفس هذا المعنى إلينا نحن معشر المسلمين مباشرة، وذلك حينما كان قريبًا من منى، وأمر عبد الله بن عباس أن يلتقط له حصيات، وأشار إلى أن تكون الحصيات صغيرة بقدر حصى الخذف، وقال: (مثل هذه، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم غلوهم في دينهم) .
فالغلو في الدين لا يجوز مطلقًا، وبخاصة ما كان منه متعلقًا بالعقيدة مثل الأمور الغيبية، فمثل هذا الزعم الذي زعمه هذا المنشد:
لو أبصر الشيطان طلعة نوره في وجه آدم كان أول من سجد
هذا من كلام الشعراء الذين يتبعهم الغاوون.
إذًا: مثل هذا الإنشاد لا يجوز قطعًا؛ والكلام والنطق والتلفظ به لا يجوز؛ لأنه باطل، ولذلك حذر الرسول ﵊ المسلمين من أن ينصاعوا في مدحه ولو في حدود الواقع، خشية أن يجرهم ذلك إلى مثل هذا الكلام الباطل، فقال ﵊: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) (لا تطروني) أي: لا تمدحوني، وبهذه المناسبة يجب التذكير بأنه ليس معنى هذا الحديث كما يذكر بعض الشراح: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي، لا.
وإنما لا تمدحوني مطلقًا؛ لأنه ليس بحاجة إلى أن يمدح، وذلك لأن اليهود النصارى إنما ضلوا ووصلوا إلى جعل عيسى ابن الله بسبب أنهم فتحوا لأنفسهم باب مدح عيسى ﵊.
وكلنا يعلم أن معظم النار من مستصغر الشرر، فالشيطان من كيده لبني الإنسان، لا يفزعه بالموبقات وبالعظائم من الأمور المحرمة؛ لأن ذلك مما ينبه عدوه الإنسان فلا يتورط معه، وإنما يأتيه خطوة خطوة، فسدًا للذريعة قال ﵊: (لا تطروني) أي: لا تمدحوني مطلقًا (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) ومن الدليل على هذا الذي قلته: أن هذا الحديث أورده علماء الحديث ومنهم الإمام الترمذي في كتابه الشمائل النبوية، أورده تحت باب: تواضع النبي ﷺ، فلو كان الإمام الترمذي يفهم هذا الحديث: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي، لم يتصل هذا المعنى بالباب، أو لم يكن الحديث مترجمًا للباب؛ لأن هذا لا يدل على التواضع، وهو واجب على أي إنسان أن يقول للناس: لا تمدحوني بالباطل، هذا ليس تواضعًا، لكن التواضع هو إذا فهم الحديث على ظاهره، لا تمدحوني مطلقًا، هذا هو التواضع لماذا يا رسول الله وأنت أهل لأن تمدح؟ لأن فتح هذا الباب قد يؤدي بكم إلى الوقوع في مثل ما وقع فيه النصارى من الإسراف، وهذا في الواقع مشاهد اليوم بين المسلمين، وهذا بيت شعر أمامكم من أبيات كثيرة وكثيرة من قصيدة البوصيري وغيره:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
هذا مدح؛ لكنه كفر؛ لأن الرسول ﵊ سمع الجارية في زمنه وهي تقول:
وفينا نبي الله يعلم ما في غد
فقال: (لا يعلم الغيب إلا الله، دعي هذا)، فكيف لو سمع الرسول ﵊ قول البوصيري:
ومن علومك علم اللوح والقلم
؟! لاشك أن هذا ضلال لا يرضاه الرسول ﵊؛ لأنه يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
إذًا: فقطع دابر هذه المبالغات هو ألا يفتح المسلم باب المديح خاصة بالأناشيد هذه، ويكتفي بقراءة ما ثبت في السيرة من أخلاق الرسول ﵊ ومن معجزاته وآدابه التي فتح بها هذه القلوب التي كانت عميًا.
وإليك بعض الأمثلة الموضحة لهذا المعنى: عن عبد الله بن الشخير قال: (انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي ﷺ فقلنا: أنت سيدنا، فقال ﵊: السيد الله ﵎، قلنا: وأفضلنا فضلًا، وأعظمنا طولًا، فقال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) رواه أبو داود بسند جيد.
ماذا يقصد الرسول ﷺ بقوله: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان)؟ أي: لما قالوا للرسول ﵇: أنت سيدنا، قال لهم ﵊: (السيد الله) أي: السيد الحقيقي هو الله، ولما قالوا له: (وأفضلنا فضلًا وأعظمنا طولًا) قال لهم ﵊: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) أي: لا تفتحوا على أنفسكم باب الانحراف عن الصراط المستقيم، بالغلو في مدح الرسول ﷺ وتعظيمه، فيجركم الشيطان إلى الطرق المنحرفة عن الصراط المستقيم، كما قال ﵊: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) .
كذلك يشير الرسول ﵊ بقوله: (ولا يستجرينكم الشيطان) إلى الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود قال: (كنا جلوسًا عند النبي ﷺ، فخط على الأرض خطًا مستقيمًا، ثم خط من حوله خطوطًا قصيرة، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يمد أصبعه على الخط المستقيم: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:١٥٣]) .
فالمبالغة في مدح الأنبياء والصالحين هي من الطرق التي يجر الشيطان المبالغين في المدح إلى طرق قصيرة، ويخرجهم بها عن الصراط المستقيم الذي هو طريق واحد لا ثانيَ له، هذا هو المقصود بقوله ﵇: (ولا يستجرينكم الشيطان) وبعبارة أصولية: إن الرسول ﵊ بقوله: (لا يستجرينكم الشيطان) وضع باب سد الذريعة، فهو ينهى عن المبالغة في المدح؛ خشية أن يؤدي إلى ما لا يجوز من الكلام كما فعل النصارى.
4 / 4