الدليل الأول: حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة)
من أشهر ما يستدل به الجماهير اليوم في استحسانهم الابتداع في الدين الحديث المشهور وهو في صحيح مسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أوزارهم شيء)، يستدلون بهذا الحديث على أن في الإسلام بدعة حسنة وبدعة سيئة.
وكشف الخطأ في هذا الاستدلال يمكن أن يقوم على أمرين اثنين: الأمر الأول: أن نستحضر سبب ورود الحديث، فإن معرفتنا بسبب ورود الحديث سيكشف لنا مباشرة خطأ الاستدلال بالحديث على أن في الإسلام بدعة حسنة لم يأت بها الرسول ﵊ ولا أمر بها، وإنما يستحسنها المسلمون.
سبب هذا الحديث كما هو أيضًا مذكور مع الحديث في صحيح مسلم وغيره، يقول جرير بن عبد الله البجلي: (كنا جلوسًا مع النبي ﵌، فجاءه أعراب مجتابو النمار، متقلدو السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فلما رآهم رسول الله ﷺ تمعر وجهه -أي: ظهرت عليه ملامح الحزن والأسى لما رأى في هؤلاء المُضريين من فقر مدقع- فخطب ﵊ في الناس ووعظهم وذكرهم، وكان من جملة ذلك أن قال لهم: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون:١٠])، قرأ ﷺ هذه الآية يحض فيها الصحابة على الصدقة على هؤلاء- وزاد في ذلك أن قال ﵊ مفسرًا الآية: (تصدق رجل بدرهمه، بديناره، بصاع بره، بصاع شعيره، فكان أن قام رجل منهم لينطلق إلى داره ويعود ومعه ما تيسر له من صدقه، ووضعها أمام الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فلما رآه سائر الصحابة قام كل منهم أيضًا وجاء بما تيسر له من صدقة، فاجتمع أمام الرسول صلوات الله وسلامه عليه كأمثال الجبال من الطعام والدراهم، فلما رأى ذلك رسول الله ﷺ صار وجهه كأنه مذهبة -تهلل وجهه كأنه مذهبة، كالفضة المكسية بالذهب، تبرق أسارير وجهه ﵇ فرحًا باستجابة أصحابه لموعظته - فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة ...) إلى آخر الحديث.
فالآن هم يفسرون (من سن) بمعنى: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، وهنا في الشطر الثاني: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة) أي: ابتدع في الإسلام بدعة سيئة، يفسرون (من سن) بمعنى: من ابتدع، في كل من الموضعين.
فالآن نعود إلى الشطر الأول من هذا الحديث الذي فيه: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...) وهم يفسرونها بقولهم: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، أين البدعة في هذه القصة حتى يصح تفسير الحديث لما يذهبون إليه؟ لم نجد في هذه القصة سوى الصدقة، والصدقة مشروعة بنص القرآن قبل هذه الحادثة، فرسول الله ﷺ ذكرهم بالآية السابقة فقال: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة:٢٥٤]، فإذًا: هذه الصدقة ليست بدعة، وأكد لهم الرسول ﵇ فحضهم أن يتصدق أحدهم ولو بدرهم، فإذًا: ليس في هذه الحادثة بدعة حسنة حتى يقال: إن الرسول قال في هذه المناسبة: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، ولا يتجاوب أبدًا، فلو حرفنا لفظ الحديث إلى هذا اللفظ: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، لا يتجاوب هذا اللفظ مع الحادثة مطلقًا؛ لأن الحادثة ليست فيها بدعة مطلقًا، فهذا يبين خطأ هذا التفسير.
وأنا كما أقول في مثل هذه المناسبة: إن تفسير هذا الحديث بهذا التفسير المتأخر: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة.
لا يقوله رجل أعجمي -ليس عربيًا- إذا كان عنده شيء من الفقه الإسلامي والمعرفة باللغة العربية؛ لأنه ليس هناك تتطابق ولا أي موافقة بين الواقعة وبين قول من قد يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، في مثل هذه المناسبة، وهذا يدل على خطإ هذا التفسير.
والتفسير الصحيح واضح جدًا إذا تأملنا تأملًا قليلًا في الحادثة، إذا عدنا إلى لفظ الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...) نسأل الآن: الصدقة حسنة أم سيئة؟ لا شك أنها حسنة؛ فقد شرعها الله بنص الآية السابقة، ورسول الله ﷺ بحديثه.
إذًا: هذا المتصدق الأول لم يأتِ ببدعة حسنة، لم يأت بشيء جديد لم يكن معروفًا من قبل، بل الصدقة من فضائل الأعمال، وجاء فيها أحاديث كثيرة.
إذًا: ما معنى قول الرسول ﵊ في هذا الحديث بالذات: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...)؟ واضح جدًا من الحادثة: أن الرجل الأول كان أول من استجاب لموعظة الرسول ﷺ، وأول من انطلق إلى داره ليأتي بما تيسر له من الصدقة، فاتبعه الصحابة في ذلك، فكان هو بانطلاقه أول إنسان سنَّ لهؤلاء هذه السنة الحسنة.
فهو إذًا: كأناسٍ يكونون غافلين عن مشروع خيري، فيُلْهِم الله ﷿ أحدهم فيقوم بهذا المشروع، وهذا المشروع مذكور الأمر به في الكتاب والسنة، ولو فرضنا: جمع أموال لأيتام لمساكين لبناء مسجد لأي عمل خيري، لا يمكن لإنسان عنده ذرة من فقه أن يقول: هذا العمل الخيري بدعة في الدين أبدًا، لكن كان هذا الإنسان أول من تحرك لهذا المشروع الخيري، فأعان الناس على ذلك، فهذا الإنسان الأول يطلق عليه أنه سنَّ في الإسلام سنة حسنة، لكن التحسين ليس من عنده، التحسين ممن له التحسين والتقبيح وهو الله ﵎، لكن هو كان أول من تحرك لفتح باب هذا المشروع الحسن بنص الكتاب والسنة.
إذًا: (من سن) بمعنى: من فتح طريقًا إلى سنة حسنة بالنص لا بالعقل والهوى، كما يفسره جماهير الناس اليوم: (كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) .
كذلك تمام الحديث إذا ما قام به إنسان ينطبق عليه: (من سن في الإسلام سنة سيئة) ما هي السنة السيئة؟ أمر منكر شرعًا، معروف نكارته وضلالته بنص الشرع، يقوم الإنسان فيفتح بابًا لهذا الشر، فيكون عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، مثلًا: التبرج رفع القبور والتفاخر ببنائها بناء المساجد على القبور، كل هذه محرمات في الإسلام، فأول واحد فتح هذه السنة المنكرة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، هو لم يأتِ بمنكر غير معروف شرعًا، معروف أنه منكر في الشرع، لكن الناس كانوا في عافية من هذا المنكر، فجاء رجل من الناس ففتح الباب لهذا المنكر، فهو ما سنَّ سنة سيئة بمعنى: ابتدع وأحدث شيئًا لم ينبه الشرع على نكارته وضلاله، لا.
وإنما هو فتح الطريق لهذا المنكر أمام الناس فكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة.
هذا هو الأمر الأول الذي يمكن أن نفهم به هذا الحديث فهمًا صحيحًا، ونرد به التفسير الخاطئ الذي ذاع في الأزمنة المتأخرة بأن معنى الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...) أي: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، فهذا التفسير خطأ، والتفسير الصحيح قد تبين لكم.
الأمر الثاني: أن نقول: في هذا الحديث ذكر السنة الحسنة والسنة السيئة، فما هو المعيار للتمييز بين السنة الحسنة والسنة السيئة، ولنقل معهم الآن -مجاراة لهم على ألفاظهم-: ما المعيار وما الميزان للتفريق بين البدعة الحسنة والبدعة السيئة؟ إنه القرآن أو السنة، ليس عندنا سوى ذلك.
إذًا: كل من يقول: هذه بدعة حسنة، أو يقول: هذه بدعة سيئة، فلا بد أن يأتي على ما يقول بالدليل الذي يشهد بما يقول من الكتاب أو السنة، أما مجرد القول كما نسمع دائمًا وأبدًا حينما يقول أنصار السنة: إن هذه يا أخي بدعة، يكون
الجواب
انظر يا أخي! كيف الإسلام؟ لا بد أن يأتي هذا الذي يستحسن هذه البدعة بالدليل المحسن، والذي ينكر البدعة أو يسميها بدعة سيئة لا بد أيضًا أن يأتي بالدليل على أنها بدعة سيئة.
وهنا لا بد من التذكير بخطإٍ يقع فيه أولئك الناس حينما يقال: هذه بدعة، فيأتيك الجواب: أنت كلك بدعة! هكذا يبادءوننا، بدعة لماذا؟ يقولون: أنتم دائمًا تقولون: هذا ليس من السنة، وهذا ليس من السنة والكرسي والعباءة والطاقية.
وإلى آخره، كل هذا لم يكن في عهد السلف الصالح، هذه غفلة منهم عن الشعور بمنة الله وفضله على الناس في الآية السابقة، هو قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة:٣]، ما قال: أتممت عليكم دنياكم، فهذه من أمور الدنيا ليس لها علاقة بالدين أبدًا، كل إنسان له أن يأكل ويشرب ويلبس ما يشاء، لكن في حدود الشرع، فالرسول ﷺ صرح من أجل هذا وقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، فيخلط هؤلاء الناس بين البدعة الدينية والبدعة الدنيوية، فأول ما تنكر عليهم بدعة من بدع الدين رأسًا يحاججك ببدعة من بدع الدنيا.
يا أخي: ما جاء رسول الله ليعلمنا المهن والاختراع والابتكار في أمور الدنيا، وإنما قال ﵇: (ما تركت شيئًا يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به)، أما وسائل الدنيا والتوسع بها فهذه ليس لها علاقة بالبدعة في الدين.
إذًا: من فسر الحديث بمن ابتدع بدعة حسنة عليه أن يأتي بالدليل من الكتاب والسنة أن هذه بدعة حسنة، وحينذاك نحن نسلم لهم تسليمًا، فإذا جاءوا بحديث يؤيد أن هذا الذي يسمونه بدعة في الدين لكنها بدعة حسنة، جاءوا بالدليل على أنها حسنة فيبقى بعد ذلك الخلاف بيننا وبينهم كما يقول الفقهاء: خلافًا لفظيًا، نحن لا نوافقهم على تسمية ما قام الدليل الشرعي على حسنه، لا نوافقهم على تسميته بدعة، وهم يسمونها بدعة، لا بأس، لكن المهم أن يكون هناك دليل يؤيد ما وصفوا به البدعة من أنها حسنة.
وآتيكم بمثال، وهذا نستنكره أشد الاستنكار: لما يقسمون البدعة إلى خمسة أقسام، أول هذه الأقسام: بدعة فرض: واجبة، فريضة، وأول مثال: جمع القرآن الكريم بدعة في الدين، الله أكبر! إذا كان الرسول ﵊
1 / 10