وهو يدلل على ذلك بقدرة فيولا على التدبير والتفكير بعد أن تحررت من دورها باعتبارها فتاة صغيرة، فتبدأ رحلة اكتشاف الذات. وهي تحدد منذ البداية ما تريده وتعمل على تحقيقه، وهي تجبر أورسينو على التغيير؛ ففي المشهد الرابع من الفصل الثاني حين تقول «لكني أعرف» (104) نعلم ويعلم الجمهور أنها تعرف شيئا لا يعرفه أورسينو، بل وسوف تعرف ما سوف تعرفه أوليفيا وأورسينو، ألا وهو أن الكثير من الفوارق الظاهرة بين الجنسين يمكن أن تتلاشى، وحين تقول إن المرأة تخلص في الحب مثلها أو مثل أورسينو، يدرك الجمهور أنها تقصد ذاتها وهي أنثى، رغم إدراكه في زمن شيكسبير أن الممثل الذي يلعب دورها غلام، ويفهم أورسينو أنها تقصد الرجال، ومن ثم يكون المقصود هو الإنسان، نحن البشر! (107) والدرس الذي تتعلمه وتعلمه لأورسينو هو ما أدركته حين ولدت توءما لصبي، وهو ما يعني أننا ما «إن نقر بالاختلاف الجنسي الجسدي، حتى يتساوى في نظرنا الجنسان إلى حد بعيد».
وخلاصة دراسة كيمبره هي أن أورسينو وأوليفيا كانا في بداية المسرحية حبيسين للدور الاجتماعي المحدد لكل من الجنسين، ولكن تنكر فيولا أتاح لهما مثلما أتاح لفيولا تحطيم أقفال ذلك المحبس؛ فلقد أتاح التنكر للجميع أن يستمدوا القدرة من «إمكانات الازدواج الجنسي» (ص32) على النمو الإنساني والتطور في طريق الذات الكاملة المكتملة!
وتعارض جين هوارد (
Jean E. Howard ) في دراستها عن ارتداء ملابس الجنس الآخر، والمسرح، والصراع بين الجنسين في أوائل العصر الحديث في إنجلترا، المنشورة في المجلة السابقة نفسها، العدد 39 لعام 1988م، ما تقوله بلسي وما يقوله جرينبلات وسبقت الإشارة إليه. “Crossdressing, The Theatre, and Gender Struggle in Early Modern England”, pp. 418-440.
فتقول إن المسرحية تبدو لها تجسيدا لحكاية خرافية ظالمة للمرأة، ترمي إلى «احتواء» دورها الاجتماعي، وقمع التمرد الطبقي، وإعلاء شأن «المرأة الصالحة» باعتبارها المرأة التي تؤمن، بغض النظر عن ملابسها، بالفروق الجوهرية بينها وبين الرجال، وبموقعها الثانوي بالنسبة له. وتقول صراحة إن المسرحية فيما يبدو تمجد المرأة التي ارتدت ملابس الرجال ما دامت لا تطمح في موقف من مواقع السلطة المخصصة للرجل، وتعاقب المرأة غير المتنكرة التي تطمح في موقع من هذه المواقع (ص437). فالمسرحية في رأيها تبين أنه إذا كان التنكر يؤدي إلى بلبلة من نوع ما، فإنه لا يمثل مشكلة في الواقع للنظام الاجتماعي ما دام (القلب) سليما قائلة:
أو بتعبير آخر، إذا لم تصحب ذلك التنكر الرغبة السياسية في إعادة تعريف حقوق المرأة وسلطاتها، وهدم النظام الهرمي لترتيب الجنسين ... وأعتقد أنه من الإنصاف أن أقول إن تصور فيولا ... يمثل إحدى لحظات ظهور الذات الأنثى في الحقبة البرجوازية؛ فهي امرأة تستند حريتها المحدودة إلى الإيمان بالاختلاف بين الجنسين، والقبول طواعية بتفاوت حظوظ التمتع بالسلطة وبالموارد الثقافية والاقتصادية (ص438).
وتقول إن المسرحية تعالج بنفس الوضوح تأديب امرأة تؤمن بأنوثتها، وهو التأديب الفكاهي التقليدي في الكوميديا، ألا وهي أوليفيا؛ إذ إنها تشكل خطرا اجتماعيا ما دامت قد قررت الاستقلال عن عالم الرجال، وخصوصا معارضة الحاكم الدوق أورسينو! وهي تتلقى عقابا مؤكدا في هذه المسرحية وإن يكن فكاهيا، ألا وهو الوقوع في حب خادم صغير! وهكذا تصبح فيولا المتنكرة أداة إذلال للمرأة المتمردة في نظر الجمهور، تماما مثلما عوقبت تيتانيا، ملكة الجان، في «حلم ليلة صيف»، بأن جعلها زوجها أوبرون، ملك الجان، تقع في حب حمار. وتختتم دراستها قائلة:
وإذا كان هذا النص، على نحو ما أقمت عليه الحجة، يعالج العلاقات بين الجنسين معالجة «محافظة»، فإن ذلك يصدق على معالجته لقضية الطبقات الاجتماعية. وإذا كانت النساء المتمردات والرجال المخنثون من مصادر القلق التي تحتاج إلى تصويب وتصحيح، فهذا ينطبق كذلك على محدثي النعمة المتطلعين إلى «العلا». وانظر إلى مالفوليو الذي يحاول تجاوز حدود طبقته فيرتدي جوربا أصفر ورباط ساق صليبيا! انظر كيف يعاقب عقابا وحشيا مهينا، وذلك يرجع أصداء العقاب الفكاهي الذي تتعرض له أوليفيا (ص439).
وليس من قبيل المبالغة أن أقول إن الدراسات الكثيرة المكتوبة من وجهة نظر النقد النسائي لا تتجاوز محور كمبره (ومن بعده بلسي) ومحور هوارد، سواء في هذه الدراسة الموجزة أم في كتابها الموسع وعنوانه المسرح والصراع الاجتماعي في أوائل العصر الحديث في إنجلترا، الصادر عام 1994م، والذي تكرر فيه ما قالته هنا مع الإفاضة في ضرب الأمثلة من هذه المسرحية ومن مسرحيات أخرى:
Jean E. Howard, The Stage and Social Struggle in Early Modern England, 1994.
صفحة غير معروفة