ويؤكد كثير من المخرجين رأي هذه الناقدة في تقديمهم تصورا «للمكان» الذي تحدث فيه المسرحية، يقوم على الخلط بين الوهم والواقع، على نحو ما قدمه مخرج العرض المسرحي لفرقة الجلوب الجديدة في لندن عام 2002م، وهذا الخلط هو الذي يؤكد التزاوج الحميم بين الرومانس وبين الكوميديا التي لا بد لها من أسانيد ثابتة في عالم الواقع.
ويؤكد ما قلته عن تضافر عناصر الرومانس مع عناصر الكوميديا هذا المزج بين العالم الشاعري الذي تدور فيه قصة الحب المعقدة وبين العالم المادي الذي نشهد فيه نزلاء منزل الكونتيسه أوليفيا وما يدبرونه من مكائد لبعضهم البعض، فالسير توبي يخدع السير أندرو ويقترض منه الأموال دون أن ينتوي سدادها متعللا بتمكينه من الزواج من ابنة أخيه، وهو يشترك مع فابيان وماريا في خداع مالفوليو خداعا يصفه فابيان قائلا: لو كان ذلك يحدث على المسرح الآن لأنكرته باعتباره خيالات خرافية. (3 / 4 / 129-130) وهكذا نجد التقابل بين الخيال الرومانسي الذي يصور إنسانية صادقة حقيقية، وبين الواقع المادي الذي يقترب في شططه وجنوحه من عالم الخيال، ويتمكن شيكسبير من تحقيق التضافر من خلال التتابع الزمني الوثيق لأحداث الحبكة الرئيسية الشعرية وأحداث الحبكة الثانوية النثرية. (4) التقابل والتضاد
إننا ما إن نفرغ من المشهدين الشعريين اللذين يضعاننا في قلب عالم الرومانس (1 / 1 و1 / 2) حتى نقابل الصورة المضادة في المشهد التالي (1 / 3)، حيث نجد سير توبي عم أوليفيا، الذي أحضر السير أندرو خاطبا لابنة أخيه، فنهبط بذلك إلى عالم الواقع، ولكنه ليس واقعا كئيبا ولا مؤلما؛ فالسير توبي يمثل للجمهور الإليزابيثي ما كان يمثله في بلاط اللوردات في ذلك العصر رجل يسمى مدير الألاعيب المرحة (
Master of merry disports )، ويشار إليه باسم غريب هو «رب الفوضى» (
Lord of Misrule ) بمعنى مدير الحفلات واللعبات التي تتيح للناس (في الفترة السابقة على الصوم الكبير
Lent
وما يصاحبه من زهد وتقشف) أن ينطلقوا فيتحرروا من قيود المجتمع الصارمة، وهو ما كان يسمى «الكارنيفال»، أو ماردي جرا (
Carnival or Mardi Gras )، والصوم الكبير يتلوه «الفرج» بمقدم الربيع. والسير توبي إذن يجسد صورة مألوفة لدى أبناء العصر الإليزابيثي؛ فهو تجسيد للحياة الناعمة أو طيب العيش (
The good life )، ولم تكن تعني آنذاك أكثر من الملاذ الجسدية، ومن ثم فهو يقدم صورة أبيقورية مناقضة للفضيلة التي يمثلها «البيوريتاني» مالفوليو. فالسير توبي يستنكر أن يخفي السير أندرو «فضائله» فلا يرقص علنا في غدوه ورواحه، «هل علينا أن نخفي فضائلنا في هذه الدنيا؟» (1 / 3 / 130-131) وعندما يلومه مالفوليو في الفصل الثاني على الرقص والسكر والعربدة يقول له سير توبي «هل تظن أن استمساكك بالفضيلة سيحرم الناس من الفطائر والجعة؟» (2 / 3 / 114-115). أي إننا نواجه على أرض الواقع صورتين متضادتين للفضيلة ؛ الأولى: صورة استغراق في الملاذ الحسية وعلى رأسها المهارة في الرقص، الغناء، والشراب، و«أطايب العيش». والثانية: صورة زهد وامتناع عن إجابة نوازع الجسد، وهي التي كانت تمثل رمزيا صورة الصوم، وتمثل اجتماعيا نزعة كانت قد بدأت تنتشر في مطلع القرن السابع عشر، هي الضيق ب «مثالب» الكنيسة الإنجليزية في عهد الإصلاح الديني؛ إذ كان الكثيرون يرون أنها كانت لا تزال تتسم بملامح كاثوليكية ويطالبون بالعودة إلى صورة دينية أشد «نقاء» أو «طهرا» (
purer ) وهذه هي الكلمة التي أتت فيما بعد بمصطلح «المتطهرين» أو «دعاة النقاء» أو البيوريتانيين، والمعروف أنه لم تنقض ثلاثون عاما على تقديم مسرحية «الليلة الثانية عشرة» حتى كان هؤلاء قد دخلوا البرلمان وأثبتوا سلطانهم فيه، وكانت النتيجة هي الثورة الإنجليزية التي تزعمها أوليفر كرومويل المتعصب، وبلغت ذروتها في الإعدام العلني للملك تشارلز الأول في عام 1649م الأنجليكاني الذي كان يؤمن بضرورة الاستمساك بالطقوس والشعائر. وأقول بالمنسابة إن الشاعر المسرحي الفذ بن جونسون (
صفحة غير معروفة