ولو أنه انقلب إلى بلاده في عهد الحرب البويرية، لرأى ما يروق لعينه فيها من تلك الخرق السوداء؛ خرق الحداد التي تتجمل بها الأذرع هناك ، وقلما ترى العين ذراعا غفلا منها منذ كانت الحروب الترنسفالية، فيسأل الله دوام تلك الحروب؛ ليدوم عليه وعلى أمته سوادها. وهذا أديم الليل، فليقدوا منه ما استطاعوا إذا أعوزهم النسيج، وعزت الألوان.
ثم يعود إلى داره، فينغمس في حوض من الماء، فإذا تم ابتراده فيه تحول عنه إلى المائدة، حتى إذا امتلأ عمد إلى مجلس الشراب، واسترسل فيما هو فيه إلى قبيل تطفيل الشمس، ثم يفزع إلى بارودته فيحتقبها، وينطلق للتصيد في الأودية والغابات وخلفه الكلب والخادم، ولا يعقب حتى يلوح سهيل.
هذا كل ما يفعله الإنجليزي في يومه، وهذه عيشته، وتلك حالته.
أما الجندي الأشقر؛ صاحب الرداء الأحمر، والعيش الأخضر، والطالع الأزهر، فعيشته أعجب، وسيرته أطرب.
يؤتى به من جيشه وهو من عامة الجند فيه، عاطل الذراع، خفيف المتاع، فإذا قدم مصر ليلا أبى أن تشرق عليه شمسها حتى يكون رئيسا لمكتب إفرنجي يعنو لأمرته كل من فيه من مترجم وكاتب، ثم تسيل له أودية الميزانية بالعطاء، وتفتح أبواب الخزائن، فيمنح من النقود ما شاءت القوة، ومن النفوذ ما شاءت السياسة، حتى يصبح محل الثقة، وموضع السر، ومحور الأشغال، وقطب التنقلات، ومركز التغيرات، فلا يبرم الحاكم الإنجليزي أمرا دون استشارته، فإذا دخل فيه العجب، وغلب على نفسه الزهو، نظر إلى المصري تلك النظرة التي أسلفنا نعتها، فتتقاطر على بابه فئات المتزلفين، وأرباب الحاجات، فمن كان له به دخل أو خاصة، كان السعيد المحبو، ومن صلى لغير تلك القبلة كان الطريد المجفو.
وأعرف واحدا منهم قد استطرد به جواد السعادة حتى أصبح قومندانا لحملة الجيش، وآخر قد سما به سلم العز حتى أصبح من السردار قاب قوسين أو أدنى، وهو اليوم بالسردارية واضعا إحدى قدميه على العسكرية، والأخرى على الملكية، تجري على سن قلمه أرزاقهم، وتدور على طرف لسانه تنقلاتهم.
قال الراوي: ثم سكت قليلا واستأنف الحديث قائلا: ولو أنني حدثتك عن ذيل الثورة وما كان فيها من أمر الخائنين منا، لأضفت إلى عجبك من تغطرس الرؤساء استياءك من تدابر المرءوسين.
قال صاحبي: وما عسى أن يكون ذلك الذيل؟ قال البائس: مخزية أتى بها مصري، وماذا أقول فيه والزمان أكثر منه وفاء بالعهود؟! خرج من الثورة خروج القدح المنيح، فكبر عليه الأمر،
شهر البؤس، وبيده فتحت تلك الزجاجات في شهر النعيم، وهو أول من طرق الباب على كبيره، وخبره بما سمع وما رأى، وأول من دخل في نسبة القوم، فكانوا إذا ذكروه وأعماله قال: ما رأينا غرابا أشبه بغراب من هذا بنا.
قال في نفسه: لقد زجرت يد القدر طيري بالنحوس، ونسي القوم ما قدمت يداي، وما كان أشبهني بالعافية تذكر عند المرضى، حتى إذا زالت عوارض السقم سن صاحبها ذلك الذكر.
صفحة غير معروفة