أذاقتك وصال الحسان، وخالفت فيك شريعة الديان، وأرشفتك رضابا أعذب من مائك، وأحلى من وفائك، ثم غيرها عليك الزمان، فجادتك بعرائس الطين بعد عرائس الحور العين، وأمعنت في العقوق، فجعلتك مصرفا لفضلات البطون، ثم أمعنت في العقوق فصيرتك مقبرة للجيف ؛ لتصبح بذلك مجرى للبلاء، ومستودعا للوباء.
سبحانك اللهم! هذه زمزم على ملوحتها قد عزت بجوار بيتك القديم، فتهادى بمائها القصاد، وحملوه إلى أقصى البلاد، وحرص أهلها على عينها حرص المرء على عينه. وهذا النيل على عذوبته قد ذل بجوار قوم أهانوه، ولو كان عند غيرهم لعبدوه، وتالله، لو جرى في غير مصر لبنوا عليه أسوارا من النفوس، وأقاموا عليها حرسا من الضمائر.
أف لتلك الأمة جهلت قدر محبيها! ولم تعلم أن من مجراه تجري عليها هذه الأرزاق، ومن حمرة مائه تخضر تلك الأوراق. أف لها ما أقل شكرانها، وأكثر كفرانها! ينبغ فيها النابغة فينبعث أشقاها للطعن عليه، فلا يزال يكيد له حتى يبلغ منه، ويكتب فيها الكاتب فينبري له سفيهها، فلا يفتأ ينبح عليه حتى ينشب فيه نابه، ويفسد عليه كتابه، ويشعر فيها الشاعر فيحمل عليه جاهل، فلا ينفك عنه حتى يغلبه على أمره، ويقهره على شعره.
يا رب أخرجني إلى دار الرضا
عجلا فهذا عالم منحوس
ظلوا كدائرة تحول بعضها
عن بعضها فجميعها معكوس»
ثم إني أمسكت عن الكلام، وعزمت على التحول من هذا المكان. وإني لأهم بالنهوض إذا وقع في سمعي صوت إنسان يسبح الرحمن، يقول في تسبيحه: سبحان من حكم على الخلق بالفناء! سبحان من تفرد بالبقاء! فخشع قلبي عند ذكر الله وقلت: أنطلق إلى صاحب ذلك الصوت؛ فلعلي أظفر بأحد عباد الله الصالحين، فأستدعيه لي دعوة يمحو الله بها أثر استجابته في لدعوة ذلك «الإمام». فثرت من مكاني، وأخذت كل سمتي إلى جهة الصوت، وكنت إذ ذاك في أوليات الليل، وتالله إني لأقترب منه وإذا به يقول: «أديب بائس، وشاعر يائس، دهمته الكوارث، ودهمته الحوادث، فلم تجد له عزما، ولم تصب منه حزما. خرج يروح عن نفسه، ويخفف من نكسه، فكشف له عن مكاني، وقد آن أواني. أي فلان، لقد أخرجت للناس كتابا، ففتحوا عليك من الحروب أبوابا، وخلا غابك من الأسد فتذاءب عليك أهل الحسد. أي فلان، إذا ألقى عصاه ذلك المسافر، وغادر بحر العلم أرض الجزائر؛ فقد بطل السحر والساحر. فانكفئ إلى كسر دارك، وبالغ في كتم أسرارك، وأقبل غدا مع الليل، وترقب طلوع سهيل، ومتى سمعت من قبلنا التسبيح، فقل لصاحبك الذي يليك: هلم إلى سطيح.»
ثم انقطع صوته، فلبثت في مكاني حتى استوحشت لوحدتي وانفرادي في جوف ذلك الليل، فرجعت أدراجي. وكنت منذ لقيته وأنا في ذهول من عقلي، ودهشة من أمري. ولما ثاب إلي السكون، جعلت أتأمل في عباراته، وأتروى في مغزى سجعاته، وقلت في نفسي: لقد كنت أعلم أن سطيحا قد قضى نحبه ولقي ربه، فهل صدق القائلون بالرجعة، أم جعل الله لكل زمن سطيحا؟ على أني في غد سألقاه، وأطلب إليه أن أراه، وأسأله عن أشياء كتمتها في صدري، وكادت تدخل معي قبري.
فانطلقت حتى إذا بلغت داري وقد شابت ذوائب الليل أخذت مضجعي، وجعلت أعالج النوم، ولكن طافت بالرأس طائفة من الأفكار، فباعدت ما بين الجفنين، وأزعجت ما بين الجنبين، فأقض
صفحة غير معروفة