في هذه الدار في هذا المكان على
هذا السرير رأيت الملك قد سقطا
وقصصت على الباشا قصة صاحب القصر، ومليك ذلك العصر، وما كان فيه من الجد الصاعد، والبخت المساعد، وما صار إليه من نحوسة سعده، ثم سكنى لحده، وبعد أن ذاق في هذه الدار؛
نالوا قليلا من اللذات وارتحلوا
برغمهم فإذا النعماء بأساء»
وما انتهيت من هذا الحديث حتى انتهينا إلى حيث نفترق، فقصدت داري وقصد داره، ولكنني استشعرت بعد فراقه ميلا إلى السهر، فعطفت على أحد الأندية، وانتحيت ناحية، وجلست وما كاد يحتويني المكان حتى طلع على النادي ثلاثة من الشبان، شممت من أردانهم أريج الحسب والنسب، وعرفت في وجوههم نضرة النعيم، فدخلوا وهم كأنهم روضة تمشي، وجلسوا وما شككت في أنهم من أقران الثريا، وكانوا بحيث أسمع ما يقولون، ثم صاحوا بالخادم، فأقبل مهرولا، فتقدموا إليه بطلب كاسات الراح، فانطلق يعدو وما لبث إلا ريثما عاد يحمل كئوسا من البلور، ملؤها ذهب سائل، أو أصيل جامد، فصففها أمامهم، وحفها بأطباق النقل وطاقات الزهر، فقلت في نفسي: لقد أراني في حان، وما كنت لأعد نفسي من أهلها، فهممت بالانصراف، ولكن أمسكني حب الاطلاع على ما سيكون من أمرهم، وما يدور من الحديث بينهم، فلبثت أسمع وأرى، وإذا بهم قد استرسلوا في الأنس، وتبسطوا على السرور، وكانوا كلما أفرغوا كئوسهم امتلأت نفوسهم طربا، وتهللت وجوههم فرحا، فما زالوا يستحثون الكئوس إلى أفواههم بحادي الغناء حتى خلعوا رداء الأنفة، وطرحوا مطارف الاحتشام، فقام أحدهم وقد علت الخمر ذؤابته، ورنحت أعطافه، وقال: أخشى أيها الصاحبان أن تميل علينا هذه الصفراء بخديعتها وختلها، فنقع في مثل ما وقع فيه ذلك الشاعر الفارسي الذي يقول: ما زلنا نشرب الخمر حتى بحنا بأسرارنا، فلما رأت منا ذلك أشفقت على نفسها من أن نبوح بسرها، فأمسكت ألسنتنا، فأجابه أحد صاحبيه: وما عساك تخشى منها؟ فهب أنها دبت منك إلى موضع السر، فهل لك دوننا سر تطويه أو شيء تخفيه؟ قال: كلا، فإنني لم أكتمك مذ صحبتك شيئا من أمري، اللهم إلا واحدة.
قال: وما عسى تكون؟ قال: إني أغبطك على أبيك، وأتمنى أن أكون في موضعك، قال صاحبه وقد عراه الدهش: وما الذي غبطت مني حتى بلغ الأمر إلى التمني، ولا أراك دوني في الأشياء؟! فأنت - بحمد الله - في بشاشة من العيش ورخاء من البال.
قال: تعلم أن أبي مدير، وأن أباك مستشار بمحكمة الاستئناف، قال: علمت ذلك وما غاب عني أن أباك أعلى من أبي منصبا، وأكثر مرتبا. ينقد أبوك في كل شهر مائة ذهبا، وينقد أبي دون ذلك.
قال: أراك تداجي في القول، وتتغابى عن الفهم، وأنت تعلم أنه ما من الله على خلقه بنعمة هي أولى بالشكر، وأحق بالذكر من نعمة الأمن، فقال تعالى معددا آلاءه على قريش:
فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، فجعل سبحانه الأمن من نعمته الكبرى، ومنته العظمى، فمن بات منا آمنا في سربه كان حقيقا ألا يغفل طرفة عين عن الشكر.
صفحة غير معروفة