لو كان هذا العاشق متواضعا أما كنت تحسنين إليه في غضبك إحسانك إليه في رضاك؟ كان لا يريد أن يرغم، ولكنه كان قوي القلب والنفس، فرميت به في جزيرة قحلاء في وسط المحيط، وقضيت عليه أن يقضي ست سنين على الصخر المحاط بالأقيانوس؛ لعله يلين، فلم يزدد إلا قوة، فبطشت فقضى!
لقد اخترت رجلا آخر، ولكنه فصيح اللسان قوي الجنان رحيب الصدر كبير القلب، فانتشلته من بين يدي أبيه الوضيع واخترت له أن يحكم أمة بأسرها!
فتحت له الطريق وأضأت سبيله وجعلته بعين واحدة
2
يرى كل شيء، ألبسته درعا من المغنطيس ووضعت في صوته أنغاما لم يعتد الناس سماعها، وأطلقته يخطب فيهم حتى سحرهم فملكوه قلوبهم، فلما جاء اليوم الذي تعدينه له دفع عن وطنه أعداءه، وقال لأمته الخامدة: انهضي. فنهضت، ثم سيري فسارت.
وأراد أن يخطو إلى الأمام خطوة فقلت له بصوتك القاهر: مكانك. فوقف، فأمطرت عليه مصائب؛ نصرت عليه أعداءه وأعداءك! خطفت من أمامه أمه، وأغضبت معشوقته؛ فهوى كمن هوى من قبل، وواريت رفاته لحدا مهجورا بين وطنه القديم والجديد.
إنني أرى قسوتك بعيني وألمسها، ولكنني لا أستطيع الابتعاد عنك، إنك تجذبيني؛ لأنني أضعف منك، أليس القضاء عبدا من عبيدك؟ أليس الدهر رمزا عليك؟ أليست صلواتنا وتهجداتنا وآهاتنا متوجهة إليك؟
يا ربة المجد، ليس لنا من يدك مفر، ولكننا لن نجهل صنعك، إن علمنا بمسيرنا يعزينا.
النشيد الرابع: مبصر وضرير
كنت في حياتي أستنجد بالقوى الخفية، وأستغيث بالآلهة المستترة، ولكنني منذ اليوم أستنجد بالقوى الظاهرة، وأستغيث بالأرباب التي أراها أمام عيني، كنت أحسب أن كل عظيم لا تراه العين البشرية، وأن عالم الخفاء وحده هو الشامل للعقل العام والنفس المدبرة، ولكنني أصبحت اليوم أرى ذلك العقل وتلك النفس فيما حولي، فيما يقع عليه نظري، فيما يسرني ويحزنني، فيما تشعر به روحي وما يلمسه حسي، في المحيا الجميل، وفي الوجه المشوه، في البحيرة العميقة وفي الجبل الباذخ، في الزهرة البديعة، وفي الشجرة الظليلة، إني أرى العقل العام والنفس المدبرة في عقلي ونفسي كما أراها في كل ذرة من ذرات الوجود.
صفحة غير معروفة