الليلة السابعة
صديقي علي
زارني الروح الحائر، قال: «هل رأيت نرجسا؟» قلت: «نعم، رأيتها.»
قال: «إنني اليوم حزين بقدر حزني أمس.»
قلت: «هذا يسوءني، وماذا حدث فزاد غمك؟» قال: «لقيت اليوم روح صديق قديم.» قلت: «من هو؟» قال: «روح علي.» قلت: «ومن هو علي؟»
قال: إنه صديق عرفته في أيام الصبا، أيام كنت أمرح في نعيم الفتوة، وأسرح في واد من الهناء، في تلك الأيام التي بدد الدهر أوصالها، إذ كان كل كوكب في نظري قمرا، وكل زهرة وردة، وكل مسرة سعادة لا تنتهي، وكل كلمة قيلت همسا سرا لا ينسى، وكل بسمة دليل إخلاص أبدي.
هذه أيام الصبا التي ذهبت عني وولت كما ذهبت عن غيري من الأوائل والأواخر، فبكتها القلوب والنواظر ورثاها كل كاتب وشاعر، واستعادها كل شيخ هرم، ولكن قلب الشباب قاس أصم، فلا يرق لحال شاك ولا يسمع صوت باك، لا أبكي الشباب على الأرض ولا أستعيده فقد كانت همومه عندي أعظم من مسراته، وحسناته أقل من سيئاته، ولو لم يكن في الشباب من عيب سوى حماقته وجهله لاستعذت منه بالشيخوخة والهرم.
ولكن كان لدي أسطر في قرطاس كلما قلبت فيها أجفاني جادت عيوني باللؤلؤ الرطب على صديق عرفته في الصبا، ذبلت زهرته وذوت نضرته قبل أن أعرفه حق المعرفة، مات هذا الصديق قبل أن أدرك معنى الصداقة، وقبل أن أفقه معنى الإخلاص، فلما شببت وأدركت معناهما بكيته ولا أزال أبكيه، وقلت: لو اختار الإخلاص والصداقة شخصا يسكنان قلبه كان صاحبي ذلك الشخص.
كان صاحبي هذا عبدا أسود، وأقول عبدا مفاخرا؛ لأنني وجدت فيه حرا رفيع النفس عالي الهمة، ويا حبذا لو كان في الأحرار له مثيل!
كان لهذا العبد سيد، ونعم العبد وبئس السيد! وأظنه كان طبيبا أتى بتلك الجوهرة السوداء من بلد بأقصى النوبة، معظم أهله من العرب.
صفحة غير معروفة