2
انطلق جمصة البلطي، كبير الشرطة، نحو النهر ليمارس هوايته المفضلة في الصيد - كف نفسه أربعين يوما عن هوايته حدادا على رئيسه علي السلولي - وقد حزن على القاتل أيضا - في باطنه - بحكم الجيرة والصداقة القديمة التي جعلت من الأسرتين أسرة واحدة .. رباه! هو الذي قبض عليه، هو الذي رماه في السجن، هو الذي قدمه للمحاكمة، ثم ساقه أخيرا للسياف شبيب رامة .. هو أيضا من علق رأسه بأعلى داره وصادر أمواله وطرد أسرته من الدار إلى النار .. وعلى ما عرف به من شدة وصلابة، فقد تكدر صفوه وحزن قلبه - له قلب؛ رغم أن كثيرين لا يتصورون ذلك - بل أحب هذا القلب حسنية، كريمة صنعان، وأوشك أن يطلب يدها، لولا أن دهمته الحوادث .. اليوم طاب الجو، وهامت في السماء سحائب خريف صافية، ولكن حبه دهس تحت عجلة الأحداث .. ترك بغلته مع عبد، ثم دفع القارب إلى وسط النهر، ورمى بالشبكة .. قطرات من الراحة في خضم العمل الشاق الوحشي .. ابتسم .. سرعان ما تم التفاهم بينه وبين الحاكم الجديد خليل الهمذاني .. من أين يجيء شهريار بهؤلاء الحكام؟! أسفر الرجل عن وجهه عند أول تجربة .. التجربة كانت أموال صنعان المصادرة .. استولى على نصيب منها لا يستهان به، وألقم بطيشة مرجان، كما ألقمه نصيبه .. وأضاف المتبقي إلى بيت المال .. استولى على نصيبه، بالرغم من حزنه لمصير صديقه؛ معتذرا أمام نفسه بأن الرفض يعني تحديا للحاكم الجديد .. في قلبه موضع للعواطف، وموضع للقسوة والجشع .. قال لنفسه: «من تعفف جاع في هذه المدينة.» .. وتساءل ساخرا: «ماذا يجري علينا لو تولى أمورنا حاكم عادل؟!» .. أليس السلطان نفسه هو من قتل مئات من العذارى، والعشرات من أهل الورع والتقى؟! ما أخف موازينه إذا قيس بغيره من أكابر السلطنة .. تنفس بعمق .. حقا إنه يوم جميل .. السماء منقوشة بالسحب .. الهواء معتدل، مضمخ برائحة العشب والماء، الشبكة تمتلئ بالسمك، ولكن أين حسنية؟ أأسرة صنعان تقيم اليوم بحجرة بربع؟ .. بعد الجاه والجواهر والإصطبل .. أم السعد تصنع الحلوى التي كانت تسحر بها ألباب الضيوف، وفاضل يسرح بها كبائع جوال، أما حسنية فتنتظر عريسا لن يأتي .. هل حقا سخرك عفريت يا صنعان أو أتلفتك عضة كلب؟! لن أنسى نظرتك الزائغة واستغاثتك بي: «أسرتي يا جمصة» .. هيهات أن يجرؤ إنسان على مد يده إلى أسرتك .. ابنك فاضل أيضا ولد ذو كبرياء .. ضعت يا صنعان وما كان كان .. إن يكن عفريتك مؤمنا حقا فليفعل شيئا .. عجيبة هذه السلطنة، بناسها وعفاريتها .. ترفع شعار الله، وتغوص في الدنس .. وبغتة تحول وعيه إلى يده .. ثقلت الشبكة مبشرة بالخير .. جذبها بسرور، حتى استوت فوق سطح القارب .. لم ير بها سمكة واحدة!
3
ذهل جمصة البلطي .. ثمة كرة معدنية ولا شيء سواها .. تناولها حانقا، قلبها بين يديه، ثم رمى بها في باطن القارب .. أحدثت صوتا عميقا مؤثرا .. حدث بها شيء غير ملحوظ فتمخض عن انفجار .. انطلق منها ما يشبه الغبار مدوما في الجو حتى عانق سحب الخريف .. وتلاشى الغبار تاركا وجودا خفيفا جثم عليه فملأ شعوره بحضوره الطاغي .. ارتعب جمصة على إيلافه مواقف الخطر .. أدرك بسابق علمه أنه حيال عفريت منطلق من قمقم .. ما ملك أن هتف: الأمان بحق مولانا سليمان!
فقال صوت لم يسمع له مثيلا من قبل: ما أعذب الحرية بعد جحيم السجن!
فقال البلطي متوددا بحلق جاف: خلاصك تم على يدي. - أخبرني أولا عما فعل الله بسليمان؟ - مات سيدنا سليمان منذ أكثر من ألف عام. - مباركة مشيئة الله، هي التي سلطت علينا إرادة آدمي لا يرقى ترابه إلى نارنا، وذلك الآدمي هو الذي عاقبني على هفوة من هفوات القلب يغفر الله أكبر منها برحمته.
فقال جمصة بأمل متصاعد: هنيئا لك الحرية، فانطلق واستمتع بها.
قال بسخرية: أراك تطمع في النجاة! - بما كنت وسيلة إلى خلاصك! - ما حررني إلا القدر.
فقال جمصة بلهفة: وكنت أداة القدر.
فقال بحنق: في سجني الطويل امتلأت بالحنق والرغبة في الانتقام.
صفحة غير معروفة