الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار
الناشر
مكتبة محمد المليجي الكتبي وأخيه، مصر
سنة النشر
1315 هـ
فأعيد درهما فيه وأنفق درهما على عيالي وأتصدق بدرهم، وكان لا يأكل من صدقات الناس، وكان الناس يسخرونه في حمل أمتعتهم لرثاثة حاله، فربما عرفوه فيريدون أن يحملوا عنه فيقول لا حتى أوصلكم إلى المنزل وهو إذ ذاك أمير على المدائن، وكان رضي الله عنه يقول: إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل مريض معه طبيبه الذي يعلم داءه ودواءه، فإذا اشتهى ما يضره منعه، وقال: إن أكلته هلكت، وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة فيمنعه الله عز وجل منها حتى يموت فيدخل الجنة، وكان رضي الله عنه يقول عجبا لمؤمل الدنيا والموت يطلبه وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك ولا يدري أربه راض عنه أم ساخط، وكان رضي الله عنه يقول: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا فقال: " ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب ".
عاش رضي الله عنه مائتين وخمسين سنة، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه.
ومنهم تميم الداري
رضي الله تعالى عنه
كان كثير التهجد قام ليلة حتى أصبح بآية واحدة من القرآن يركع، ويسجد ويبكي وهي قوله تعالى: " أم حسب الذين يعملون السيئات " الآية وكان له هيئة ولباس وحسن، وكان أول من قص على الناس بإذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان له حلة اشتراها بألف درهم فكان يلبسها في الليلة التي يرجي أنها ليلة القدر، والله أعلم.
ومنهم أبو الدرداء عويمر بن زيد
رضي الله تعالى عنه
كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما أمن أحد على إيمانه أن يسلب إلا سلب، وكان يقول إني لآمركم بالأمر لا أفعله ولكني أرجو به الأجر من قبلكم، وكان رضي الله عنه يقول: تفكر ساعة خير من قيام أربعين ليلة، وكان يقول مثقال ذرة من برمع تقوى ويقين أفضل وأعظم وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المقربين، وكان يقول: إن من فقه الرجل رفقه في معيشته، وكان يقول معاتبة الأخ خير من فقده.
وكان يقول إن ناقدت الناس ناقدوك وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك، فهبوا أعراضكم ليوم فقركم، وكان يقول لو تعلمون ما أنتم راءون بعد الموت ما أكلتم طعاما وما شربتم ماء عن شهوة ووددت أني شجرة تعضد، ثم تؤكل وكان يقول: أدركت الناس ورقا لا شوك فيه فأصبحوا شوكا لا ورق فيه، وكان رضي الله عنه يقول: إن الذي ألسنتهم رطبة من ذكر الله عز وجل يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك.
قلت: والمراد بالرطبة عدم الغفلة فإن القلب إذا غفل يبس اللسان وخرج عن كونه رطبا، وكان يقول: لا تبغض من أخيك المسلم إذا عصى إلا عمله فإذا تركه فهو أخوك ، وكان رضي الله عنه يقول نعم صومعة الرجل المسلم بيته يكف لسانه وفرجه وبصره.
وقالت أم الدرداء: له إن احتجت بعدك أفآكل الصدقة. قال لا، اعملي وكلي فإن ضعفت عن العمل فالتقطي السنبل ولا تأكلي الصدقة وخطبها معاوية فأبت وقالت: لا أغير على أبي الدرداء، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه لم يزل يدفع الدنيا بالراحتين ويقول: إليك عني، وكان يقول لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت نفسه في جانب الله أشد المقت، وكان يقول ما في المؤمن بضعة أحب إلى الله من لسانه، فليحفظه لئلا يدخله النار، وكان رضي الله عنه يقول: إنا لنضحك في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتلعنهم، وكان يقول إذا تغير أخوك واعوج فلا تتركه لأجل ذلك فإن الأخ يعوج مرة ويستقيم أخرى، وكان هذا مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والنخعي وجماعة لا يهجرون عند الذنب، ويقولون لا تحدثوا بزلة العالم فإنه يزل الزلة، ثم يتركها وكانت زوجته أم الدرداء تقول: طلبت العبادة في كل شيء، فما وجدت شيئا أشفى لصدري ولا أفضل من مجالس الذكر، فكانوا يحضرون عندها فيذكرون فتذكر معهم، وأرسلت إلى نوف البكالي وهو يعظ الناس تقول له اتق الله ولتكن موعظتك لنفسك، والله أعلم.
ومنهم عبد الله بن عمر
رضي الله تعالى عنهما
كان من عباد الصحابة وزهادهم لم يضع لبنة على لبنة، ولا غرس شجرة منذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رضي الله عنه يقول: يا بن آدم صاحب الدنيا ببدنك وفارقها بقلبك وهمتك، وكان رضي الله عنه يقول لا يكون الرجل من أهل العلم حتى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من تحته ولا يبتغي بالعلم ثمنا والله أعلم.
صفحة ٢١