والتبشيرُ والإنذارُ هو الترغيبُ والترهيبُ، فلذلك كانت تلك المجالسُ توجبُ لأصحابه - كما ذكر (^١) أبو هُرَيْرَةَ ﵁ في هذا الحديث - رقَّةَ القلوب، والزُّهدَ في الدُّنيا، والرَّغبةَ في الآخرة. فأمّا رِقّةُ القلوبِ فتنشأُ عن الذِّكْرِ؛ فإن ذِكْر اللهِ يوجِبُ خُشوعَ القلبِ وصلاحَه ورِقَّته، وَيذْهَبُ بالغَفْلة عنه (^٢).
قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. (^٣). وقال الله ﷿: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (^٤). وقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (^٥). وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (^٦). وقال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (^٧).
وقال العِرْبَاضُ بنُ سَارِيَة (^٨): وعظَنا رسولُ اللهِ ﷺ موعِظَةً بليغَةً وجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العُيونُ (^٩). وقال ابنُ مسعودٍ: نِعْمَ المجلسُ، المجلسُ الذي
_________
= في الدين، وواحد في السماء، وواحد في الجنة، وواحد في القلب. ففي الدنيا النار، وفي السماء الشمس، وفي الدين محمد ﷺ، وواحد في الجنة عمر سراج أهل الجنة، وفي القلب المعرفة".
(^١) في ب، ش، ط: "كما ذكره". وسبق حديث أبي هريرة قبل قليل.
(^٢) في ع: "ويذهب الغفلة عنه".
(^٣) سورة الرعد الآية ٢٨.
(^٤) سورة الأنفال الآية ٢.
(^٥) سورة الحج الآية ٣٤ و٣٥.
(^٦) سورة الحديد الآية ١٦.
(^٧) سورة الزمر الآية ٢٣.
(^٨) هو العِرباض بن سارية السُّلمي، أبو نجيح، أحد أصحاب الصُّفَّة بالشام، سكن حمص، وحديثه في "السنن" الأربعة، و"مسند أحمد"، مات سنة ٧٥ هـ. انظر سير أعلام النبلاء ٣/ ٤١٩. والعِرْباض: الغليظ من الناس.
(^٩) قطعة من حديث رواه أحمد في "المسند" (٤/ ١٢٦ - ١٢٧)؛ وأبو داود رقم (٤٦٠٧) في السنة، باب في لزوم السنة؛ والترمذي رقم (٢٦٧٦) في العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسُّنة واجتناب البدع؛ والدارمي (١/ ٤٤)؛ وابن ماجه رقم (٤٢)، في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، وتمامه عند الإمام أحمد: صلّى بنا رسول الله ﷺ الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقيل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهد الينا؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ =
1 / 46