[الجزء الاول]
مدخل
ترجع أهمية نشر هذا الكتاب إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
أولا: أنه من الناحية الموضوعية يعالج قضية هامة وهى تفسير القرآن الكريم على طريقة أرباب المجاهدات والأحوال، وهذا منهج في التفسير نادر في المكتبة العربية، فأنت تستطيع أن تجد عددا غير قليل من التفاسير التي تتناول النص القرآنى فى ضوء اللغة العربية أو الإعراب أو البلاغة أو الفقه أو أسباب النزول أو التشريع أو القصص والأخبار أو نحو ذلك مما هو مألوف ومعروف منذ نزل القرآن ومنذ ظهرت الاتجاهات المختلفة فى دراسته، ويمكن أن تجد عدة مصنفات لعدة شخصيات فى كل لون من هذه الألوان بحيث يغنيك واحد أو اثنان منها عمّا سواهما.
فإذا بحثت عن التفسير الصوفي ألفيته- على العكس من ذلك- نادرا، وألفيت الإنتاج فيه غير شاف، فإمّا أن يكون مقتضبا «كتفسير القرآن العظيم» لسهل بن عبد الله التستري (المتوفى سنة ٢٨٣ هـ) وقد طبعته السعادة فى عام ١٩٠٨ م فيما لا يزيد على مائتى صفحة، ويستطيع القارئ أن يتصور كيف يمكن لمائتى صفحة أن تعنى بدراسة القرآن على نحو مرض.
وإمّا أن يكون مطعونا فيه كما هو الشأن فى «حقائق التفسير» لأبى عبد الرحمن السّلمى (المتوفى سنة ٤١٢ هـ) الذي يقول فى وصفه- ونحن نقتطف منه هذه الفقرة لنوضّح ما قلناه آنفا عن ندرة التفسير الصوفي: «لمّا رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا فى أنواع فرائد القرآن من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفضّل، وناسخ، ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان الحقيقة إلا آيات متفرقة أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضمّ أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى» [حقائق التفسير للسلمى مخطوطة ١٥٠ تفسير دار الكتب ص ٢٢١] .
1 / 3
وعند ما ظهر حقائق التفسير، أحدث ضجة كبرى، فقد لقى معارضات شديدة من معاصريه وممن أتوا بعده، فانّهم بالابتداع والتحريف والقرمطة والتشيع ووضع الأحاديث على الصوفية يقول ابن الصلاح: (وجدت عن الإمام الواحدي أنه قد صنّف أبو عبد الرحمن السلمى حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر) وقال الذهبي فى «تذكرته»: أتى السّلمى فى «حقائقه» بمصائب وتأويلات للباطنية نسأل الله العافية تذكرة الحفاظ ج ٣ ص ٢٤٩.
ووصفه ابن تيمية بالكذب: (منهاج السنة ج ٤ ص ١٥٥) .
وعدّ السيوطي تفسيره ضمن التفاسير المبتدعة معللا لذلك بقوله: «.... وإنما أوردته فى هذا القسم لأنه غير محمود (طبقات المفسرين للسيوطى ط ليدن سنة ١٨٣٩ ص ٣١) .
أما إخوان الصفا الذين يحشرهم جولد تسيهر ضمن مفسرى الصوفية فى كتابه (مذاهب التفسير الإسلامى)، فهم أولا غير صوفية وإنما هم جماعة من المشتغلين بالفلسفة ذوى أغراض بعيدة خبيثة، ضمت صفوفهم لفيفا من الناس مختلفى النزعات والثقافات حتى كان من بينهم ملاحدة، فإحالتهم على الصوفية تجن على الحقيقة وعلى التاريخ وعلى التصوف، ولسنا نبرىء جولد تسيهر من ذلك- مع تقديرنا لكتابه القيّم.
وحتى القرن الخامس الهجري لا نجد كما يقول صاحب (تاريخ أدبيات در ايران): «أهمّ من حقائق السلمى ولطائف الإشارات للقشيرى وتفسير سورة الإخلاص للغزالى» [تاريخ أدبيات در ايران للدكتور ذبيح الله صفا (مكتوب بالفارسية) فصل التفسير صفحة ٢٥٦، ٢٥٧] .
وبعد ذلك بنحو قرن نلتقى بتفسير ابن عربى الذي هو قبل كل شىء مطعون فى نسبته إليه، وفى ذلك يقول الشيخ محمد عبده (اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية، وينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، وإنما هو للقاشانى الباطني الشهير) ويضيف الأستاذ الإمام (وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز) تفسير المنار ج ١ ص ١٨) .
1 / 4
نعم صدق الأستاذ الإمام، فالكتاب مملوء بدعاوى وحدة الوجود، وما جرّه هذا المذهب من ويلات، ولسنا هنا بصدد دراسة تفصيلية له، ولكننا نشعر بالحاجة إلى أن نسوق شواهد قليلة تثبت مجانبة هذا التفسير للحق، وكيف أنه لا يصح أن يكون نموذجا للاتجاه الصوفي السديد- كما حلا لجولد تسيهر أن يظهره ويتحمس له، ليخرج من ذلك بأحكام عامة يصدرها عن التصوف الإسلامى- كأنما يروى غليله.
ففى سورة المزمل عند قوله تعالى (واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا، يقول: (واذكر اسم ربك الذي هو أنت..) !! ج ٢ ص ٣٥٢.
وفى سورة الواقعة عند قوله تعالى (نحن خلقناكم فلولا تصدقون)، يقول: نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا، وظهورنا فى صوركم) ج ٢ ص ٢٩١ وليس هذا التصوّر بمستغرب على من يقول إن عجل بنى إسرائيل أحد المظاهر التي اتّخذها الله وحلّ فيها!! وليس من الإنصاف أن يقال للناس هذا هو رأى الصوفية المسلمين ولا رأى بعده، بل يجب أن نضع فى اعتبارنا أن مذهب وحدة الوجود مذهب فلسفى يبتعد عن المنهج القلبي العرفانى الذي اختطه أرباب المجاهدات والأحوال للوصول إلى وحدة الشهود، وفى وحدة الشهود- ومهما قيل عنها من كلام ظاهره مستشنع وباطنه سليم على حدّ تعريف أبى نصر السراج الطوسي للشطح- يبقى دائما شىء هام قوى ناصع أن العبد عبد والرب رب ولا تداخل ولا امتزاج ولا حلول ولا اتحاد، بل بمقدار ما يصل العبد إلى تحقيق عبوديته يصل إلى التحقق من ربوبيته الرب وتنزيهه عن كل إفك وباطل ... تعالى الله علوّا كبيرا.
ولا ينبغى لنا أن نغض الطرف عن قيمة التفاسير المبعثرة فى المراجع الصوفية الكبرى لآيات بعينها من القرآن الكريم، فإن تبعثر هذه التفاسير لا يحول دون تقديرها حق قدرها، ذلك لأنها غالبا ما سيقت لتدعيم موقف أو لتشهد على استمداد فكرة أو لفظة، فهى من هذه الناحية لا تخرج عن كونها تفسيرا صوفيا غير مجموع.
وفيما عدا ذلك يمكن القول إن أبرز التفاسير الصوفية التي نعرفها كتابان أولهما «عرائس البيان فى حقائق القرآن» لأبى محمد روزبهان بن أبى النصر البقلى الشيرازي المتوفى سنة ٦٠٦ هـ[كشف الظنون ج ٢ ص ٢١]
1 / 5
وثانيهما التأويلات النجمية» لنجم الدين داية المتوفى سنة ٦٥٤ هـ وقد مات قبل أن يكمله فأكمله علاء الدولة السمناني المتوفى ٧٣٦ هـ (كشف الظنون ج ١ ص ٢٣٨) .
لأجل هذا كله نحتفل «بلطائف الإشارات» فأغلب ما سقناه من تفاسير صوفية لا يسلم من النقد، ولا يصحّ أن يكون نموذجا صالحا لتمثيل الصوفية والتصوف بأمانة وصدق.
«لطائف الإشارات» سفر نفيس كتبه صاحبه محاولا أن يوفّق بين علوم الحقيقة وعلوم الشريعة، وقاصدا إلى هدف بعيد أنه لا تعارض بين هذه وتلك، وأن أي كلام يناقض ذلك خروج على أىّ منهما وعلى كليهما (فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، الشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده) الرسالة القشيرية ص ٤٦.
وهذا ما حدث فعلا.. فأنت خلال قراءة «اللطائف» تشعر أن كل صغيرة وكبيرة فى علوم الصوفية لها أصل من القرآن، ويتجلّى ذلك بصفة خاصة حيثما ورد المصطلح الصوفي صريحا فى النص القرآنى كالذكر والتوكل والرضا، والولي والولاية والحق والظاهر والباطن، والقبض والبسط ... إلخ فلا تملك إلا أن تحكم أن الصوفية قد استمدوا أصولهم وفروعهم من كتاب الله الكريم، وأن علومهم ليست غريبة ولا مستوردة كما يحلو لبعض الباحثين حين يتهمون التصوف الإسلامى بالتأثر بالتيارات الأجنبية: اليونانية والفارسية والهندية والمسيحية ونحوها.
كذلك تلحظ عبقرية القشيري إزاء اللفظة أو الآية حيثما لا يكون فيها اصطلاح صوفى، فإنه يستخرج لك من آيات الطلاق إشارات فى الصحبة والصاحب، ومن علاقة النبي بأصحابه إشارات عن الشيخ ومريديه، ومن مظاهر الطبيعة كالشمس والقمر والمطر والجبال إشارات رائعة تتصل اتصالا وثيقا بالرياضيات والمجاهدات أو بالمواصلات والمكشوفات.
وربما قيل إن صنيع القشيري مسبوق وملحوق، ولكن ها نحن منذ قليل أوضحنا مقدار ما أصاب التفاسير الصوفية من سهام النقد، وبقي أن نتعرف الأسباب التي جعلتنا نحكم بأن لطائف الإشارات، خير مناضل عن التفسير الصوفي بعامة، بل بأنه من أفضل الأعمال
1 / 6
التي أنتجتها قرائح الصوفية فى شتى العصور، وربما يبدو فى ذلك بعض التعميم مع أن الأحكام العلمية ينبغى ألا تخضع للتعميم لأننا لا نستطيع أن ندّعى المعرفة الشاملة بكل التراث الصوفي، ونعترف أن عشرتنا مع الكتاب وصاحبه عشر سنوات كاملة أثناء إعداد بحثى الماجستير والدكتوراه فى الموضوعات الصوفية، ونعترف أن حماسنا لما نلحظه من الاعتدال عند القشيري دون سائر الباحثين، ونعترف أنّ ما كنا نشعر به من وجوه النقص فى سائر المصنّفات التي نهض بها غيره فى هذا الخصوص- كلّ ذلك ربما كان الدافع إلى لجوئنا إلى هذا الحكم الذي سقناه.
ومن أعجب الأمور أن القشيري يشتهر «بالرسالة» التي لا تخرج عن كونها مجموعة من الأسانيد المنسوبة إلى الشيوخ فى موضوعات بعينها، ومجموعة من التراجم لأبرز الشيوخ الذين ظهروا منذ نهاية القرن الثاني الهجري حتى بداية القرن الخامس فى صفحات قليلة ربّما أغنت عنها الكتب المطوّلة التي وضعت خصيصا لهذا الغرض مثل تذكرة العطار أو طبقات السلمى أو طبقات الشعراني ونحوها. ومع تقديرنا «للرسالة» إلا أننا لا نعتبرها بحال من الأحوال أفضل أعمال القشيري، وأنها ظلمته حين شهرته، وحين أوقفت اسمه عليها، وأصبح حتما منذ الآن أن يقول الناس «القشيري صاحب اللطائف» لا صاحب «الرسالة» . فاللطائف هى أبلغ أعماله التي تزيد على العشرين- فى نقل صورة واضحة لشخصيته، ولست أدرى لماذا لم يجد هذا الكتاب ما هو جدير به من الاهتمام فى العصور الماضية؟ لماذا حكم عليه دائما أن يبقى فى منطقة الظل؟ حتى صار ما نعرفه عن نسخه كما نفهم من «تذكرة النوادر» وكما يقول بروكلمان- محدودا ومبعثرا بين روما وبرلين واسطنبول وتونس والهند والقاهرة، ومعظمها كما سنذكر بعد قليل غير كامل.
ولكى ندرك أهمية هذا الكتاب فى تصحيح كثير من المقاييس العلمية عن التصوف والتفسير الصوفي لا بدّ لنا أن نلم بشىء من سيرة صاحبه، ونكتفى من معالم هذه السيرة بما يمكن أن يتبرر به وصول هذا العمل الجليل بتلك الأوصاف وإلى تلك النتائج. وذلكم هو العامل الثاني لأهمية نشر هذا الكتاب:
ثانيا: صاحب هذا الكتاب هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري، ولقبه زين الإسلام، وشهرته القشيري.
1 / 7
ولد فى ربيع الأول عام ٣٧٦ هـ الموافق يوليو ٩٨٦ م.
وتوفى فى يوم الأحد السادس عشر من ربيع الآخر عام ٤٦٥ هـ وهو عربى النسب من جهة أبيه فهو من قبيلة قشير العدنانية المتصلة بهوازن، ويذكر ابن حزم أن سلالات من قشير اتجهت إلى المغرب نحو الأندلس إبّان الفتح الإسلامى زمن الأمويين، واتجه بعضها إلى المشرق وكان منها ولاة وقواد على خراسان ونيسابور. (جمهرة الأنساب ٢٧٣ و٤٥٩) كذلك فإن القشيري عربى النسب من جهة أمه فهى سلمية وأخوها أبو عقيل السلمى من وجوه دهاقين أستوا، واستوا هى الناحية التي ولد فيها القشيري وتلقى بها تعليمه الأولىّ.
وحدث أن اجتاحت المنطقة ضائقة اقتصادية، ففكر الأهالى فى إرسال لفيف من أبنائهم إلى نيسابور لكى يتلقوا من دروس الحساب ما يمكّنهم- بعد عودتهم- من المشاركة فى تنظيم الأمور الاقتصادية، وكان القشيري أحد هؤلاء الأبناء.
وبدأ القشيري فى نيسابور يتهيأ لهذا اللون من الدراسة، ولكنه ما لبث أن انصرف عنها عند ما اجتذبته مجالس الفقه والكلام والحديث والتفسير والأدب، ولم تبخل نيسابور عليه بزاد، فلقد كانت فى ذلك الوقت تعج بالنشاط الفكرى، وتحفل بكبار الشيوخ أمثال ابن فورك، ومحمد بن أبى بكر الطوسي، وأبى إسحق الاسفرايينى، وقد ظفر القشيري فى كنف هؤلاء الأئمة برعاية خاصة حينما أتيح له الاتصال بهم، وأتيح لهم معرفته عن قرب، ووضح لهم فيه حسن الاستعداد، والدأب، واستقامة الخلق.
ولم يكن القشيري يضيع فترة ما بعد الدرس هباء، بل كان ينكب على القراءة والاستذكار وكان شديد الولع بالعلوم العقلية، وبخاصة تلك التي تتناول المسائل التي طالما اشتجر الخلاف حولها بين الأشاعرة وأهل الاعتزال، واستوعب فى هذه الفترة معظم ما صنّف الباقلاني.
وجاء يوم سأل فيه الإمام الاسفرايينى تلميذه القشيري- حين وجده لا يكتب كما يكتب سائر الطلاب: أما علمت يا بنى أن هذا العلم لا يحصل بالسماع؟
(ولكن القشيري أعاد عليه كل ما سمعه، وقرره أحسن تقرير، من غير إخلال بشىء فتعجّب منه وأكرمه، وقال له ما كنت أدرى يا بنى أنك بلغت هذا المحل، فلست تحتاج إلى درس يكفيك أن تطالع مصنفاتى، وتنظر فى طريقتى، وإن أشكل عليك شىء طالعتنى به
1 / 8
ففعل ذلك، وجمع بين طريقة الاسفرايينى وطريقة ابن فورك) طبقات الشافعية للسبكى ج ٣ ص ٢٤٣ وما بعدها.
وبينما كان القشيري منصرفا بكل همته إلى هذا اللون من الدراسة، دائب الاتصال بهذا الطراز من الشيوخ ساقه القدر ذات يوم إلى مجلس من لون آخر يتصدره شيخ من طراز آخر. استمع القشيري إلى أبى على الدقاق وهو يعظ على طريقة الصوفية ويتحدث فى الرياضات والمجاهدات، والأحوال والمكشوفات، والأذواق والمواجيد، والمعارف العليا التي تنثال من الحق على عباده الذين اصطفاهم، وإذا بالرجل والحديث يستوليان عليه، ويملكان فيه كل ذرة، وإذا القشيري يحادث نفسه صامتا: إنى لهذا خلقت! وعند ما كان يتهيأ ليغشى ما اعتاد من مجالس كانت أقدامه تسوقه نحو الدقاق ومجلسه فكان أول من يجلس وآخر من ينهض.
ولمحه الشيخ، ورأى فيه إصغاء ملفتا للنظر، فقربه منه، وحباه بعطفه.
وذات يوم تقدم الطالب- فى استحياء- من شيخه، فشكا إليه أمرا حزبه إنه لا يستطيع أن يجمع بين المواظبة على ما اعتاد من مجالس وبين مجلس الدقاق، وهو يؤثر أن ينصرف بكل همته وعزيمته إلى علم القلوب، وابتسم الشيخ للشاب، وتطلع إلى وجهه، وربت على كتفه قائلا:
- إنما ينبغى لك أولا أن تتقن دراستك بقدر طاقتك! ومضى الشاب الطموح يجمع بين الدراستين، وساعده ذلك على أن يتكون تكوينا عقليا ووجدانيا فى مرحلة من أدق مراحل العمر، كما ساعده على أن يتجنّب كثيرا من المشاكل النفسية التي تلم بأمثاله نتيجة الاغتراب عن بلده، ونتيجة الملل.
وأعجب الدقاق بمثابرته وطموحه واستقامته وتواضعه (فاختاره لكريمته فاطمة مؤثرا إياه على سائر أقربائها الذين تقدموا لخطبتها)، وفيات الأعيان ج ٢ ص ٣٧٥.
وهكذا توثقت الصلة بين الشيخ والشاب، وصار الدقاق رائدة وملهمه الذي أعانه على مواجهة مشكلات الحياة، وبصّره بآفات النفس وأدوائها، وكشف له عن الكثير من الخفايا والدقائق.
1 / 9
فكان هذا الاتصال عاملا جديدا من عوامل الاستقرار النفسي، وبداية لمرحلة جديدة من النضج الفكرى، لأنه أتاح له أن يجد فى صهره شيخا ورائدا وصديقا، وسهّل عليه أن يهرع إليه يستنصحه إزاء كل مسألة تعرض له أو أمر ينبهم عليه، فلم يقع تحت تأثير بلبلة، ولم يخضع لأزمة، ولم تتجاذبه ضغوط أو صراعات.
كل ذلك ترك أثره فى شخصيته، فلسنا نجد فى مؤلفاته اضطرابا أو جموحا أو غموضا، ولسنا نشعر فيما وراء السطور بعقدة من العقد، ولسنا نحس بميل إلى ابتداع، إنما نجد أنفسنا أمام شخصية سويّة، يتميز الخط الفكرى لها بالاستقامة والاعتدال، والوضوح والصدق، والإخلاص والبذل.
ولعلّ أبسط دليل على وفاء القشيري لشيخه أنك لو تصفحت «رسالته» لما غاب اسم الدقاق عن عينك، وهو يذكر اسمه دائما مقرونا بالتكريم والترحم، ويكفيك أن تقرأ هذه الفقرة لتوضح لك أولا شيئا عن مسلك القشيري خلال حياته العلمية وتوضح لك ثانيا مدى ما ينبغى أن تكون عليه علاقة المريد بشيخه، فهذه وتلك تصوّر ما نرمى إليه من بعيد عن كشف جوانب فى سيرة الرجل الذي تقدّم لك كتابه.
يقول القشيري: «لم أدخل على الأستاذ أبى على- ﵀ فى وقت بدايتى إلا صائما، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب احتشاما من أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت، كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبنى شبه خدر حتى لو غرز فىّ إبرة مثلا لعلّى كنت لا أحس بها. ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لى لم أحتج أن أسأله بلساني عن المسألة فكلما كنت أجلس كان يبتدىء بشرح واقعتى، وغير مرة رأيت منه هذا عيانا، وكنت أفكر فى نفسى كثيرا إنه لو بعث الله ﷿ فى وقتى رسولا إلى الخلق هل يمكننى أن أزيد فى حشمته على قلبى فوق ما كان منه رحمه الله تعالى؟ فكان لا يتصور لى أن ذلك ممكن، ولا أذكر أنّى فى طول اختلافي إلى مجلسه ثم كونى معه بعد حصول الوصلة أن جرى فى قلبى أو خطر ببالي عليه قط اعتراض إلى أن خرج- رحمه الله تعالى- من الدنيا) الرسالة ص ١٤٧.
وليس استطرادا أن نذكر لك كلمة موجزة عن رأى عبد الرءوف المناوى فى الدقاق،
1 / 10
لأن هذه الكلمة على إيجازها لا تكشف لك عن سمات الدقاق وحسب إنما هى سمات، القشيري ذاته فى أدق التفاصيل.
يقول المناوى «هو أبو على الحسن الدقاق النيسابورى الشافعي، كان لسان وقته وإمام عصره، فارها فى العلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، جنيدى الطريقة، سرّىّ الحقيقة، أخذ مذهب الشافعي عن القفال والحصرى وغيرهما، وبرع فى الأصول وفى الفقه وفى العربية حتى شدّت إليه الرّحال فى ذلك، ثم أخذ فى العمل، وسلك طريق التصوف، وأخذ عن النصرآباذي، قال ابن شهبه: وزاد عليه حالا ومقاما ... وقد أخذ عنه القشيري صاحب «الرسالة» وله كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة ١٠٤ هـ كلام المناوى بعد أن أخذ يضرب أمثلته لأقواله المنثورة والمنظومة [الكواكب الدرية فى تراجم الصوفية ترجمة الدقاق] .
أمّا فى مجال الصداقة فلعلّ أوثق من نعرف اتصالا به صديقه أبو عبد الرحمن السلمى وصديقه أبو المعالي الجويني إمام الحرمين.
وترجع أهمية السّلمى فى حياة القشيري إلى أنه غزير الإنتاج فى العلوم الصوفية، وأن القشيري استفاد من علمه، وآية ذلك أنك تجد السلمى فى «الرسالة» حلقة اتصال بارزة فى العديد من الأسانيد والأخبار التي عليها يعتمد القشيري موصولة بالدارقطنى والسّراج والنصرآباذي وغيرهم، ولكن الأهم من ذلك- فى تقديرنا- أن القشيري استفاد من السّلمى فائدة أبعد أثرا، ذلك أنه تجنّب التورط فى المزالق التي أدّت بصديقه إلى أن يتّهم وأن يكون موضع نقد معاصريه ومن جاء بعده، وقد نوّهنا بشىء من ذلك عند كلامنا عن «حقائقه» .
أمّا الجويني فقد كان- كالقشيرى- شافعيا من حيث المذهب الفقهي، أشعريا من حيث العقيدة الكلامية، وقد تعرّض- كالقشيرى- لآلام المحنة التي اكتوى بنارها الأشاعرة، والتي سنتحدث عنها بعد قليل، وهاجر البلاد وجاور الحرمين، ولم يعد إلى وطنه إلا بعد انجلاء الغمّة.
وإذا كان السّلمى صديقا أقرب إلى الأستاذ فإن الجويني كان صديقا أقرب إلى التلميذ، فقد استفاد من علم القشيري، فإذا تذكرنا أن الجويني أستاذ الغزالي أمكن أن نقول إن
1 / 11
القشيري موصول بالغزالي لا بطريق المصنفات التي خلّفها وحسب بل بطريق السّند الذي يمثله الجويني.
وفى مجال الحياة العملية نجد القشيري يضطلع بأعمال تتفق واستعداده وثقافته، فقد اشتغل بالتدريس فى مسجد المطرز وهو فى الثلاثين من عمره ويتضح ذلك من هذا النص:
«كنت فى ابتداء وصلتي بالاستاذ أبى علىّ- رضى الله عنه- عقد لى المجلس فى مسجد المطرز، فاستأذنته وقتا للخروج إلى «نسا»، فكنت أمشى معه يوما فى طريق مجلسه، فخطر ببالي: ليته ينوب عنّى فى مجالسى أيام غيبتى.... إلخ» الرسالة ص ١١٦.
وإلى جوار ذلك كان القشيري يعكف على التأليف دون انقطاع فانتهى من التفسير الكبير المعروف (بالتيسير في التفسير) قبل عام ٤١٠ هـ، ومن اللطائف عام ٤٣٤، ومن الرسالة عام ٤٣٧ واستمر يمارس هذا النشاط فى دأب لا يعرف الكلال حتى وصلت كتبه إلى خمسة وعشرين كتابا أو نحوها، ومن أهمها إلى جوار ما سبق: ترتيب السلوك، والتحبير فى التذكير، والأربعون حديثا، وشكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة، واستفادات المرادات، والقصيدة الصوفية، والتوحيد النبوي، واللّمع، والفصول، والفتوّة، ونحو القلوب الصغير، والكبير، والمقامات الثلاثة، وفتوى، والمعراج.
ولم يطبع من هذه الكتب إلا النذر اليسير، وفى النية أن نقوم- بعون من الله- بإخراج ما وقع لنا منها خلال رحلات طويلة عديدة، حتى يزداد الناس علما به وتقديرا له.
ولم يسلم القشيري خلال حياته من المحن والآلام، وربّما كانت أشدها جميعا ما حدث له إبّان حكم السلطان طغرل ووزيره اللعين الكندري.
كان السلطان طغرل سنيا حنفيا، ووزيره أبو نصر الكندري معتزليا رافضيا، خبيث العقيدة، ذا آراء مسرفة فى التشبيه وخلق الأفعال، والقدر، وكان متعصبا فى ذلك أشد التعصب.
وفى هذا الوقت كان بنيسابور شخصية فذّة لها فى أوساط العامة والخاصة نفوذ كبير، ومحبة فائقة، ذلكم هو الأستاذ أبو سهل بن الموفق أحد رجال الطبقة الرابعة الشافعية،
1 / 12
وكان كثير المال جوادا، وكان مرموقا بالوزارة، وداره مجتمع العلماء، وملتقى الأئمة، ونظرا لما عرف عنه من تعلّق بالمذهب الأشعري، وذود عنه، وسعى حثيث لنشره فقد ألهب ذلك حقد الكندري، خاصة وقد كان يخشى أن يقع اختيار السلطان عليه للوزارة من دونه، فمضى يلفق- لدى السلطان- عنه التهم. ولم يكتف بذلك بل لجأ إلى حيلة دنيئة حين حصل من السلطان على تفويض بسبّ المبتدعة على المنابر، فلم يجد السلطان فى ذلك بأسا، فوافق عليه، ولكن الكندري استغل هذه الموافقة فأقحم اسم أبى الحسن الأشعري ضمن المبتدعة الواجب سبّهم، وكل من كان يرفض الانصياع لذلك من الوعاظ والخطباء يفصل من عمله، ويطرد من البلاد، فنجم عن ذلك شر خطير، وفتنة كبرى امتد شررهما إلى سائر المشرق، وبات الأشاعرة فى حزن مقيم.
وفى وسط هذه المحنة، وذات يوم كثيب أسود جاء الأمر من قبل السلطان بالقبض على القشيري وإمام الحرمين والرئيس الفراتي وأبى سهل الموفق، ونفيهم، ومنعهم من المحافل، وحين قرئ الكتاب هجم جماعة من الأوباش على الأستاذ الفراتي وعلى القشيري وأخذوا يجرونهما فى الطرقات، ويكيلون لهما أقذع أنواع التهكم والاستخفاف حتى وصل الشرطة بهما إلى محبس القهندر.
أمّا إمام الحرمين فقد هرب من البلاد على طريق كرمان، واتجه إلى الحجاز، وهناك جاور، وأمّا أبو سهل. فقد كان لحسن الحظ غائبا فى بعض النواحي.
وبقي السجينان الجليلان فى المحبس، وقامت جماعات كبيرة من الناس لإنقاذهما، وحدثت حرب دامية بينهم وبين رجال السلطان انتهت بهزيمة رجال السلطان، وأخرج السجينان الجليلان من سجنهما، ولكن كبار الأشاعرة اجتمعوا وقرروا أن جهاز الحكم لن يهدأ له قرار، وأن الخير فى رحيل أئمة المذهب إلى أماكن نائية عن المشرق.
فترك القشيري وطنه وبيته وأهله وعشيرته، ومضى يضرب فى الأرض الواسعة عشر سنوات كاملة، كان خلالها موضع التكريم والتبجيل، وأقبل الناس عليه وعلى دروسه إقبالا عظيما، حتى لقد خصص الخليفة العباسي- القائم بأمر الله- له مجلسا خاصا فى مسجد قصره، وكان يواظب على شهود وعظه ومجلس حديثه، ويكرمه، ويحظى ببركته.
1 / 13
وقد وصف الخطيب البغدادي (صاحب تاريخ بغداد) مقدار إعجاب الناس بالقشيري، وكان هو نفسه أحد تلاميذه حيث يقول (حدّثنا وكتبنا عنه وكان ثقة) .
(تاريخ بغداد ج ١٠ ص ٨٣) .
وذهب القشيري الحج، وهناك التقى بصديقه الجويني وبعدد كبير من الأئمة الذين شردتهم المحنة طوال سنوات عديدة، فاجتمعوا وتدارسوا أحوالهم ومستقبلهم، واستقر رأيهم على أن يطيعوا كلمة واحد منهم مهما كانت هذه الكلمة حتى يتم الاتفاق على مبدأ ثابت يسرى عليهم جميعا، ولم يكن ذلك الذي وقع عليه اختيار الجمع غير عبد الكريم القشيري.
فصعد المنبر، وظل يتكلم، وهم يجدون لكلامه وقعا مؤثرا على قلوبهم وعقولهم، ثم مرّت لحظات صمت، بعدها شخص القشيري ببصره إلى السماء ضارعا ثم أطرق، والناس من حوله يتابعون أمره، ويتفرّسون ملامحه ... ثم قبض على لحيته وصاح بصوت عال:
«يا أهل خراسان.. بلادكم بلادكم، إن الكندري غريمكم يقطّع الآن إربا إربا، وإنى أشاهده الساعة وقد تمزّقت أعضاؤه ثم أنشد:
عميد الملك ساعدك الليالى ... على ما شئت من درك المعالي
فلم يك منك شىء غير أمر ... بلعن المسلمين على التوالي
فقابلك البلاء بما تلاقى ... فذق ما تستحق من الوبال
(تبيين كذب المفترى لابن عساكر ليدن ص ٩٣) ويقول السبكى فى طبقاته: (وضبط التاريخ فكان ذلك اليوم بعينه وتلك الساعة بعينها قد أمر السلطان بأن يقطع الكندري إربا إربا. وأن يرسل عضو منه إلى كل مكان) السبكى فى «طبقات الشافعية» ج ٢ ص ٢٧٢.
وهكذا عاد القشيري بعد هذه السنوات العشر الثّقال (من ٤٤٥ إلى ٤٥٥) إلى بلاده، وهى وإن كانت أقسى فترات عمره، وأشدها آلاما إلا أنها كانت حافلة بالتجارب، وأعانته على زيادة خبرته بالحياة والأحياء، وساعدت على توثيق الصلة بينه وبين الأوساط العلمية والأدبية خارج المشرق، ودفعته إلى أن يصنّف العديد من المصنفات المتصلة بالمذهب الأشعري
1 / 14
وبخاصة كتابه الجليل القدر «شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة»، وهى قبل كل شىء وبعد كل شىء آية ثباته على مبدئه، وأنه خليق أن يتصدّر المفكرين الأحرار فى جيله.
وجاء السلطان ألب أرسلان خلفا لعمه طغرل، وبمجىء أرسلان ووزيره الهمام الفذ نظام الملك استقبل العالم الإسلامى كله والأشاعرة بوجه خاص والقشيري بوجه أخص عهدا زاهرا آمنا، وعاد القشيري إلى مدينته الحبيبة نيسابور حيث قضى بها بقية عمره، وقضى بها عشر سنوات (كان فيها مرفها محترما، ومطاعا معظما، وأكثر صفوه فى آخر أيامه التي شاهدناه فيها آخرا، وازداد من يقرأ عليه كتبه وتصانيفه والأحاديث المسموعة له، وما يؤول إليه من نصرة المذهب حتى بلغ المنتمون إليه آلافا، فأملوا تذكيره وتصانيفه أطراف) «تاريخ نيسابور لعبد الغافر الفارسي حفيد القشيري» .
وكان نظام الملك أحد تلاميذه والمقربين إليه، وأعاد الوزير- بفضل توجيه القشيري- للأشاعرة وللزهاد وللعلماء كل ما فقدوه إبّان المحنة الأليمة من كرامة وحظوة.
أمّا أبناء القشيري فلا نعرف له إلا بنتا واحدة هى أمة الرحيم أم عبد الغافر الفارسي (قاموس الأعلام باللغة الأوزبكية ط اسطانبول سنة ١٣١٤ ص ٣٠٨٠) .
ونعرف له ستة أبناء كلهم عبادلة وكلهم أئمة، سلكوا مسلك أبيهم وقد ترجم لهم السبكى فى طبقاته كما تحدّث عنهم ابن عساكر وابن خلكان.
ولهذا ينبغى أن نتحفظ فى نسبة الأقوال المنسوبة إلى القشيري فى بعض المراجع فقد تكون هذه الأقوال صادرة عن أحد أبنائه فهم جميعا أشاعرة وهم جميعا شافعية وهم جميعا سلكوا طريق الإرادة.
لبث القشيري فى نيسابور فى أخريات حياته لم يكد يبرحها إلا لزيارة أقاربه فى البلاد المجاورة مثل نسا وأبيورد، ولكنه كان يعود مسرعا إلى نيسابور بعد كل زيارة.
وقبل أن تبزغ شمس السادس عشر من ربيع الآخر من عام ٤٦٥ هـ، كانت روحه الطاهرة قد عادت إلى بارئها. فوورى جثمانه إلى جوار صهره وشيخه وملهمه وصديقه أبى على الدقاق فى مقبرة خاصة بالأسرة ما زالت قائمة حتى وقتنا الحاضر يزورها الناس للتبرك.
1 / 15
من خلال هذه السيرة التي حاولنا إيجازها نستطيع أن ندرك أهمية الكتاب الذي نقدم له.
فصاحب الكتاب رجل أوتى حظّا وفيرا من العلوم العقلية والنقلية قبل أن يلج باب الصوفية، وهذه فى حدّ ذاتها ظاهرة لها أهميتها، وقد رأينا كيف نصح الشيخ الدقاق له بالتعمق فى هذه الدراسات قيل البدء بالسير فى دروب الإرادة، وفى ذلك أبلغ رد على من يتخرّصون الاتهامات عن الصوفية فيقولون إنهم قوم يجانبون العقل، ويحتقرون العلم ويأمرون تلامذتهم بكسر محابرهم- كما يدعى ابن الجوزي غفر الله له.
والقشيري بعد ذلك كله أديب ينظم الشعر ويتذوق الأسلوب العربي تذوقا يعتمد على أسس قوية، وقد أوضحنا ذلك بتفصيل كبير فى الأطروحة التي أعددناها عنه ونلنا بها درجة الدكتوراه.
فإذا جاء بعد ذلك ليدرس الأسلوب القرآنى، وليستخرج منه إشارات لطيفة فهو معدّ لذلك أحسن إعداد، وهو قمين بالوصول إلى نتائج باهرة، بقدر ما لديه من تهيؤ صالح مكتمل.
ثم هو شافعى أشعرى، وهو سنى متحفظ، وهو بهذه الأوصاف باحث متعمق منصف، لا يأخذ- وهو يستخرج إشارة من العبارة- إلا جانب الحذر والحيطة والاعتدال، وهو من أجل ذلك لم يخرج قيد أنملة عن هذا الخط، فلم ينصر الحقيقة على حساب الشريعة، ولم ينصر الشريعة على حساب الحقيقة، ولذلك لا نعجب إذا لم نجد عنده جموحا أو ميلا إلى جموح، ولا نعجب إذا ألفيناه لا يسخط أوساط أهل السّنّة حتى من تعصّب منهم ضدّ التّصوف وأهله فقد كان رائده دائما نصرة الحق، فليس غريبا أن يجىء «لطائف الإشارات» تعبيرا صادقا عن التصوف فى أفضل درجات الاعتدال، وأنقى صور التناول. فليس عند القشيري ما عند غيره من مساس بالألوهية، بل هو طالما يعلنها حربا لا هوادة فيها على المبتدعين والمضللين الذين أساءوا إلى التصوف وأهله تارة تحت ستار الثوب، وتارة بدعوى الفناء المغرق، ونحو ذلك من الأباطيل.
والتصوف عند القشيري ليس ثوبا مرقعا، أو خرقة بالية تفرد صاحبها عمن سواه، وتكون علما على تقواه، إنما هو صفاء النفس من كروراتها. وإنّ من كان صادقا فى طويته ونيّته سيكون محفوظا فى حالة انمحائه، سوف يردّ فى حالة الجمع إلى حالة الفرق الثاني
1 / 16
ليؤدى الفرائض الواجبة عليه ثم يعود إلى حالة الجمع مرة أخرى، ويكون فى كل أحواله مصرّفا بإرادة مولاه. كذلك فإن من كان صادقا فى بدايته ووسيلته وغايته كان محفوظا- من قبل الحق- فى كل كلمة ينطق بها أو كل حركة تصدر عنه، فإذا نطق نطق بالله، وإذا تحرّك تحرّك بالله. ومثل هذا العبد لا ينتظر منه- وهو فى يد الله على هذا النحو- أن يكون غريب الأقوال أو غريب الأفعال. فالصدق هو عمدة الأمر فى هذا السبيل- كما يرى هذا الإمام الجليل.
ثالثا: ننتقل بعد ذلك إلى العامل الثالث فى أهمية إخراج هذا الكتاب، وهو فى هذه المرة يعود إلى النسخة أو النسختين اللتين نعتمد عليهما فى التحقيق.
النسخ الكاملة من «اللطائف» نادرة فهى حسبما تقول تذكرة النوادر لا تزيد على خمس إحداها فى خزانة بانكى پور مكتوبة فى القرن التاسع، والثانية فى المكتبة الحبيبية تاريخ كتابتها عام ٨٤٤ وهى ناقصة من أولها، والثالثة فى الخزانة الآصفية بخط قديم جدا، والرابعة فى مكتبة الجامعة العثمانية بحيدرآباد مكتوبة بخطوط مختلفة سنة ٧٢٦ والخامسة فى مكتبة محمد باشا باسطنبول.
غير أننا نعتقد أن هناك عددا أكبر من النسخ يزيد عما ذكرت التذكرة وأنها منبثة فى أنحاء متفرقة من العالم، ونرجح أن النسخ الكاملة نادرة جدا كما يشير بروكلمان. وإنه لمن دواعى التوفيق أن يتاح لنا أن نحصل- لأول مرة- على الكتاب كاملا، فقد وجدنا فى مدينة طشقند عاصمة جمهوريات أوزبكستان السوفيتية فى المركز الديني لمسلمى آسيا الوسطى وقازاخستان نسخة شبه كاملة تحت رقم ١٣٠٢ تفسير تبدأ بمقدمة بقلم القشيري- وهى على جانب كبير من الأهمية- لأنها تكشف عن منهجه فى الدراسة، ثم بعدها الفاتحة والبقرة و.... حتى سورة قريش، ومعنى ذلك أنها تنقص فقط سور الماعون والكوثر والكافرون والنصر والمسد والإخلاص والفلق والناس. وهذه السور القصيرة موجودة فى النسخة الأخرى التي عندنا فى مصر ورقمها ٢٦٦ تفسير (أنظر فهرس الخزانة التيمورية ط تفسير ص ٢٣٠) والتي تبدأ بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل ...) فى سورة الأنبياء وقد قمنا بنسخ هذه المخطوطة، كما قمنا بالتقاط صورة بالميكروفيلم للنسخة الطشقندية ثم أجرينا تصويرها
1 / 17
وتكبيرها بحيث تسهل قراءتها وكانت النسختان المادة الأساسية التي اعتمدنا عليها أثناء إعداد الدكتوراه عند كلامنا عن القشيري المفسّر.
النسختان إذا تتكاملان، ويصبح هذا السفر النفيس كاملا، ويقع فى نحو ألف ومائتين صفحة، اخترنا أن نقسمها إلى أربعة أجزاء تصدر متلاحقة فى مدى عام أو عامين حسبما تساعدنا الظروف ويرزقنا الله العافية.
وصف عام للنسخة السوفيتية
تبلغ أوراقها ٥٩٧ ورقة، والأرقام التي كتبها الناسخ مطموسة فى كثير من الأحيان ولذا حرصنا عند تكبير الميكروفيلم والتصوير والطبع أن نرقمها نحن من خلف حتى لا تضطرب الأمور عند القراءة والدراسة.
وعلى الورقة الأولى توجد تعليقة مكتبة الإدارة الدينية هكذا:
تفسير أبو القاسم القشيري
٢٠٠- صو ا ١٣٠٢- II ٣٥ أما الورقة الثانية فيبدو أنها كانت خالية فملأها أحد القراء بأحاديث وشواهد شعرية وكتابة باللغة الفارسية.
ثم تبدأ مقدمة الكتاب بقلم القشيري منذ الورقة الثالثة.
وقد وقع خطأ فى ترقيم الصفحات، فبينما نجد الحديث متصلا غير منقطع بعد الورقة ٢١٤ نجد رقم الورقة التالية هو ٢٢٥ بدلا من ٢١٥، وهناك خطأ آخر ربما حدث قبل تغليف الكتاب: فالأوراق من ٣٩٤ إلى ٤٠١ كلها موجودة عقب الورقة ٤٣١ دون أن يحدث خلل أو سقوط، ومعنى هذا أن الكتاب رغم هذا- كامل لم يضع منه شىء.
كذلك يقع تفسير أواخر طه وأوائل الأنبياء- خطأ- ضمن تفسير الفرقان. وقد صححنا هذا الوضع.
1 / 18
ونظرا لعدم اكتمال النسخة من آخرها- كما قلنا من قبل- فلقد كنا نخشى أن يغيب عنّا التذييل الذي يذكر فيه الناسخ اسم وتاريخ انتهائه من عمله كما جرت العادة، ولكن لحسن الحظ وجدناه قد قسّم الكتاب قسمين كبيرين ينتهى القسم الأول بنهاية تفسير سورة الكهف ورقة ٣٧٨، وعندها كتب هذه العبارة باللغة الفارسية المختلفة بالعربية:
(تمّ بعون الله وحسن توفيقه نصف أول از تفسير محقق إمام أبو قاسم القشيري رحمة الله عليه بتاريخ شهر شوال سنة ١٢٢٤) .
ومن هذه العبارة يتضح أن الناسخ غير عربى، وأنه ربما كان فارسيا أو أفغانيا أو أوزبكيا أو أذربيجانيا، فكثرة من سكان أفغانستان وأزبكستان وأذربيجان يعتبرون الفارسية لغة اتصالهم بالعلوم الإسلامية حتى اليوم.
وقد نجم عن كون الناسخ فارسيا جنسا أو لغة أن كتابته ومراعاته للإملاء لم تكونا جيدتين، وكان علينا أن نقرأ الكتاب قراءة متفحصة لنحاول أن نحدد الطريقة التي اتبعها، لأنها- بما فيها من خطأ أحيانا أو خروج على المألوف فى الرسم أحيانا أخرى- هى التي جرى عليها عند نقله من النسخة الأخرى التي يحتمل أنها تجرى على هذا النحو، وربما كان الناسخ ينقل على نحو يكون مفهوما لديه، وميسور القراءة له وحده.
وهو لا يهتم بضبط الكلمات، ولا بترقيم العبارات فليس هناك ضبط أو فاصلة أو علامات استفهام أو أقواس أو علامات تعجب أو نحو ذلك. وقد وقع الناسخ فى أخطاء عديدة أثناء النسخ، وربّما كان مسئولا عن ذلك أو يحتمل أن النسخة التي نقل عنها بهذا الوصف.
وهامش النسخة وبخاصة فى القسم الأول من الكتاب حافلة بالتعليقات، بعضها مكتوب بالفارسية قصد منها شرح المفردات وترجمتها.
وهناك عناوين جزئية مكتوبة باللغة العربية بخط حسن تشير إلى موضوعات متنوعة ربما قصد بعض القراء إلى أن يجمعها ليستفيد منها، وليحدد موقف المصنّف إزاءها مثل (الروح- حقوق الوالدين- الدعاء- النّفس ... إلخ) .
وعند ما كانت تسقط بعض الكلمات أو العبارات من الناسخ أثناء النقل كان يستدرك
1 / 19
فيضع علامة مميزة على آخر كلمة فى المتن بدأ بعدها السقوط ويضع العلامة نفسها فى الهامش فوق الكلمة أو العبارة الساقطة، فإذا تكرر السقوط فى الصفحة الواحدة ميّز كل موضع وكل مستدرك بعلامة مباينة. كذلك فإنه كان يضع علامة خاصة عند ما يعيد كتابة كلمة أو عبارة أو سطر بدون داع حتى يلفت نظر القارئ إلى ما وقع فيه من سهو.
ولم يحدث أن وضع الناسخ ترجمة فارسية لكلمة داخل المتن بل كان يكتب الترجمة أسفل نظيرها، اللهم إلا فى حالة واحدة داخل شاهد شعرى:
آن كه شاد شود در عطا دادن ومعناها: أصبح حينئذ مسرورا بالعطاء.
ونستبعد أن القشيري يفعل ذلك، فعلى الرغم من إتقانه للغة الفارسية إلا أنه حرص فيما نعرف له من مصنفات أن يكتب بالعربية خالصة.
ويبدو أن النسخة أتيح لها أن تراجع ذات مرة، فهناك تصحيحات مختلفة فى رسم الكتابة موجودة فى الهامش فى أماكن مقابلة لموضع التصحيح فى المتن. ومن أمثلة ذلك ما جاء فى الورقة ٣٥٠ أول سورة الإسراء (وتوحّد بعلو قعونه) تصحح فى المراجعة (وتوحّد بعلو نعوته) .
وفى الورقة ٣٦١ (لبلاء أو شدة يقاليها) تصحح فى الهامش (لبلاء أو شدة يقاسيها) .
وفى الورقة ٣٧٢ جاء فى سياق وصف الدنيا (نعمها مشوقة بنقمتها تصحح فى المراجعة (نعمها مشوبة بنقمها) .
وقد كنا نحكّم الدقة عند الاستفادة من هذه المراجعة لأننا نفترض أنها قد تكون نوعا من الاجتهاد الشخصي وليست تصويبا على نسخه أفضل.
بقي شىء هام جدا، وهو توضيح موقفنا من أخطاء الناسخ، ويمكن أن نقول إننا اتخذنا منها ثلاثة مواقف.
(ا) موقفا نجد فيه الخطأ مؤكّدا ويتجلى ذلك عند كتابة بعض الآيات الكريمة حيث تسقط كلمة أو حرف أو تزيد كلمة أو حرف، فنصلح هذا الخطأ.
1 / 20
(ب) موقفا فيه الخطأ شبه مؤكد وعند ذلك نكتب فى المتن ما نراه صوابا دون أن نترك الأمر على عواهنه بل نثبت فى الهامش ما جاء فى النسخة، موضحين أسباب رفضنا لما كتبه الناسخ حتى نضع أمام القارئ صورة أمينة لما نقوم به من عمل، وكان المفروض أن نكتب كل ما كتب الناسخ فى المتن وأن نصوّب ما نراه فى الهامش ولكن هذه الأخطاء كثيرة جدا بحيث تعوّق القراءة، وتشق على الدارس.
(ح) موقفا فيه خطأ الناسخ محتمل، وعند ذلك ننقل عن الناسخ ما كتب فى المتن، ونشير إلى موقفنا إزاءه فى الهامش قائلين (ونرجح كذا ... أو لا نستبعد أنها فى الأصل كذا) تاركين الرأى للقارئ والدارس فى أن يختارا ما يريانه أقرب إلى الصواب.
أمّا المشتبهات فنضع مكانها نقطا بين أقواس ونشير إليها فى الهامش، وليس لنا فيها حيلة إلا إذا ظهرت لنا نسخة من الكتاب أكثر وضوحا.
وإذا تطلب السياق كلمة أو حرفا ليتماسك ويتضح وضعناها من عندنا بين قوسين مشيرين إليها فى الهامش.
وتجب ملاحظة أننا لا نقحم أنفسنا فى تكملة أو ترجيح إلا بناء على معرفة بأسلوب القشيري الذي ترجع معاشرتنا له إلى سنوات تزيد على العشر، كذلك كثيرا ما نرجع إلى مصنفاته الأخرى لنتبيّن رأيه فى موضع مناظر ومع كل ذلك فإننا دائما نضع الأمر بين يدى القارئ لنترك له أن يشاركنا، وله أن يقتنع بما نقول أو يتقبل ما نقلناه عن الناسخ بحذافيره حسبما يحلو له، وله أن يرفض.
ومع أن الهوامش لا تخلو من تعليقات وشروح وتخريجات للحديث الشريف إلا أننا نشعر أنها مقتضبة وغير كافية، فحرصنا على تزويد الناس بالمتن كان رائدنا الأول فى هذه المرحلة، على أننا نعد- إن أعاننا الله- أن نتمم هذا العمل بشروح أكثر بسطة، فليس «اللطائف» بأقل حاجة إلى الشروح من «الرسالة» التي حظيت باهتمام الدارسين والباحثين طوال أجيال متعاقبة.
1 / 21
النسخة المصرية
تبدأ هذه النسخة كما قلنا من قبل بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل ...) حتى نهاية الكتاب، وترجع أهمية هذه النسخة إلى أنها أولا أكملت ما ينقص النسخة السوفيتية من قصار السور، كما أنها ساعدت- نظرا لوضوح كتابتها أكثر من زميلتها- على التقليل من المشتبهات، وتتجلى أهمية ذلك فى المجلد الثاني.
ولسنا ندرى شيئا عن الناسخ الذي اضطلع بها ولا عن تاريخ نسخها نظرا لأنها ناقصة من بدايتها كما أن الناسخ لم يترك شيئا عنه فى نهايتها، ونرجح أنها أحدث عهدا من النسخة السابقة اعتمادا على رسم الكتابة وقواعد الإملاء.
منهج القشيري فى تأليف الكتاب وأهميته
صدّر القشيري كتابه بمقدمة مفيدة أوضحت خطته فى تناول الأسلوب القرآنى، وهذه المقدمة لا تلقى ضوءا على الكتاب وحده إنما تقف بنا على المقصود بالتفسير الإشارى للقرآن، وسائله وغاياته.
أطلق القشيري على كتابه اسم «لطائف الإشارات» وإذا فالتسمية التي زعمها صاحب كتاب (تاريخ أدبيات در ايران) ج ٢ ص ٢٥٧ ط ثالثة سنة ١٣٣٩ غير صحيحة حيث يقول:
«لطائف الإشارات فى حقائق العبارات» .
ومن المقدمة نفهم أن هذا اللون من التفسير يعتمد على استبطان خفايا الألفاظ- مفردة أو مركبة- دون التوقف عند حدود ظواهرها المألوفة ومعانيها القاموسية، وإنما ينظر إلى اللفظة القرآنية على أنها ذات جوهر يدق على الفهم العادي، وأهل التجريد وحدهم هم الذين يتاح لهم- بفضل من الله- العلم الذي يكشفون به عن هذا الجوهر.
وهناك رباط وثيق بين هذا العلم وبين العمل إذ لا يحظى به إلا من جرّد قلبه من كل سانحة، وصفّى نفسه من كل كدورة، وتهيأ بكل الهمة لهذه المهمة الجليلة: دراسة كلام الحق جلّ ذكره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
1 / 22